كيفما التفتنا الى محيطنا العربي نجد عالماً متشابهاً في الاتجاهات ويمر بنفس الخصوصيات والصعوبات. ويمثل العالم العربي واحة ثقافية واحدة (مليئة بالتنوع والاختلاف). ولو نظرنا الى الحركات السياسية: اسلامية او وطنية وقومية او اصلاحية وشعبية لوجدنا هموماً متقاربة وصعوبات متشابهة. لكن هذا كله واجه تحدياً كبيراً في الممارسة والتطبيق، اذ واجهت الدول العربية مصاعب جمة في البناء الوطني المحلي وواجهت في نفس الوقت واقعاً ذاتياً وآخر اقليمياً لم تعرف كيف تتعامل معه بإبداع وعصرية. وبينما عكست الفكرة الإسلامية والقومية السابقة (بأبعادها السياسية) طبيعة التواصل العربي العربي والعربي الإسلامي، الا ان وصول الفكرتين الى ازمات، بالإضافة الى تعمق ازمات الدول والأقطار المختلفة، يتطلب من العرب البحث عن طرق جديدة. ان دعوات الإسلاميين للاستنارة من عصور اندثرت قابلتها دعوات القوميين بضرورة التوحد، ولكن الحقيقة الغائبة في الوسط بقيت في الإدارة والقيادة والتعليم والمشروع الوطني والتجديد والبرامج والتفاعل مع الاختلاف والتنوع والإيمان بحقوق الآخرين وحرياتهم. في الطريق العربي الجديد يجب ان يتنافس العرب مع بعضهم ومع الآخرين في المجالات التي يجب على العرب اتقانها: العلم والتكنولوجيا، الإدارة والثقافة والاقتصاد والحقوق والحريات والمساواة وصناديق الاقتراع. الطريق الجديد يجب ان يكون خالياً من «العسكرية» والديكتاتورية الفردية التي ادت الى الكثير من كوارثنا. ويتضح ايضاً أن حرب العراق منذ 2003 هي كبانوراما ما بعد الحرب الأولى عام 1918 وسايكس بيكو الشهير الذي جاء معها. وقد يصح القول بأن العالم العربي يعيش مرحلة خاصة لها صفات تجمع بين الفوضى والعنف كما تجمع بين الغضب والرفض وتصادم الحضارات وتصادم الأفكار، لكن كل هذا بإمكانه ان يتحول الى فرصة لإعادة النظر والتساؤال والبناء على ما يبدو انه تهدّم او في طريقه الى السقوط. وفي هذا تتداخل المشاهد: فقد نشاهد مزيداً من العنف في العراق قبل ان نشاهد هدوءاً واستقراراً، كما قد نشاهد مزيداً من الإرهاب في العالم العربي قبل ان نرى بوادر اصلاح يمتص الإرهاب ويحوّله الى البناء والإنجاز والحريات والحقوق، وقد نشاهد الكثير من الفوضى في دول عربية عديدة قبل ان نتوصل الى ضرورات النظام والتطوير والمساءلة. ان هذه المرحلة تحمل في طياتها الكثير من الاحتمالات. إذ قد تأخذ العالم العربي نحو مزيد من الصراع وتعميق الخلافات الداخلية والدولية في ظل التفتت والخسائر، ولكنها في نفس الوقت قد تقودهم نحو نقيض ذلك لو أحسن بعض العرب التعامل مع مقدماتها واستغلال بعض فرصها. اننا نمر في مرحلة تشعر فيها الدولة في معظم الأقطار العربية انها محاصرة من الداخل والخارج وأنها في نفس الوقت لا تقوى على القيام بدورها تجاه مواطنيها في المجال الأمني والإنجازي والسياسي والحياتي، فالدولة في البلاد العربية هي الطرف الأكثر عجزاً بعد ان ساهمت على مدى عقود عدة في دفع الشعوب نحو حالة من الاتكالية والتفتت والضعف. الدول العربية في هذا اصبحت ضحية نفسها وما زرعته على مدى العقود الماضية. في المشهد العربي نشاهد ضعف الإنجازات، ونشعر بعمق الفساد المرتبط ايضاً بعدم الثقة بالمستقبل وبضعف القيم المهنية والأخلاقية، كما نواجه وضعاً يحتوي على خطوة ايجابية في الصباح مقابل خطوة سلبية في المساء. ألا يجب ان نتساءل كيف تحوّلنا من القومية الجامعة الشاملة وحركات القوميين العرب والناصريين ثم حركات الإسلاميين القائلة بقوة الإسلام، الى قبائل وطوائف وفئات يخاف كل منها الآخر؟ الا نتساءل كيف تحولنا من العروبة الى الأقطار المستقلة الى حكم الفرد بلا شعوب وبلا مجتمع مدني وبلا مشاركة وبلا تعددية صادقة؟ ما يقع في دول عربية عدة من العراق الى اليمن ومن مصر الى لبنان، وفي دول اسلامية على رأسها افغانستان وباكستان يؤكد بأننا نعاني نقصاً كبيراً في التعامل مع العصر الحديث وفي استيعاب اسس بناء الدول والمجتمعات المنجزة. لقد اصبحنا في المرحلة الأخيرة ضد كل شيء: ضد انفسنا وضد بعضنا البعض، ضد السنة وضد الشيعة وضد المسيحيين وضد الدين والحريات وأميركا والمرأة والشباب والإسلام والعروبة والحكومات والعولمة، والقرارات الدولية، وضد الغرب. ولكننا لسنا مع اي شيء. اصبحنا ضد من يختلف معنا ويختلف عنا ولكننا لسنا مع احد ولسنا مع انفسنا قبل كل شيء. لهذا بالتحديد نتواجه اليوم مع حقيقتنا فلا تعجبنا، ونتواجه مع مرآتنا فلا نحب ما نراه، وعندما نسمع صدى اصواتنا نكتشف الكثير عمّا حل بنا. اليوم نمر في ممر تاريخي ضيق، وتعصف بنا رياح عاتية لم نستعدّ لها. كيف نخرج من هذه الشرنقة، وكيف يكون مستقبلنا خارج اليافها؟ كيف نغير من حالنا وكيف ننطلق من جديد؟ أسئلة ستشغلنا في سنواتنا القادمة. المنطق العربي الذي ميزنا في حدته ولفظيته وعلو نبرته واستفراده يحتاج الى مراجعة صادقة اليوم. يحتاج عالم العرب الى وقفة مع الذات. علينا ان نتساءل: هل وصل العرب الى قاع القاع ام اننا سنشهد مزيداً من الهبوط؟ قد يكون الحائل بين مستقبل يسير هبوطاً وبين مستقبل يسير صعوداً مرتبطاً بمقدرة العرب افراداً ودولاً، مجتمعات وشعوباً، على احياء الروح النقدية وإحياء روح التساؤل والمراجعة وفوق كل شيء استعادة الحرية التي فقدتها الأجيال العربية طوال العقود السابقة. آن الأوان للتساؤل: أليست مشكلتنا حتى اليوم مرتبطة بضعف مقدرتنا على الترابط الخلاق مع الاتجاهات الكونية وفي تقدير المواقف وفي التنظيم وأسلوب القيادة وفي الرؤية والأهداف والأولويات؟ وهل هذا ممكن بلا حريات وبلا ثقافة تسنده وروح عصرية تغنيه؟ لا ينقص شعوبنا الاستعداد للتضحية كما تؤكد احداث العقود الماضية ومواجهة حركة «حماس» لإسرائيل في غزة وحرب لبنان عام 2006 بينها وبين «حزب الله» وعشرات الحروب والمعارك مع اسرائيل ومع بعضنا البعض، لكن تنقصنا ادارة التحالفات وبناء الإجماع وتطوير الحريات ومبادئ المساواة والإنجاز والقبول بالآخر ضمن مجتمعاتنا وفي العالم الأوسع. نتساءل كيف حصدنا عكس ما ضحينا من اجله؟ فهل المشكلة في الأهداف، ام في التقدير، وهل هي في البرامج ام في القيادات ام هي في الثقافة الأوسع ونقص الحريات وضمور الآراء المختلفة وإبعاد المخالفين في الرأي ومحدودية السياسة التي أسسناها الى يومنا هذا؟ * أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت