جائزة فرانز كافكا التي حازها قبل أيام فاتسلاف هافل، أعادت هذا الكاتب الى المعترك الأدبي بعد أن كان هجره لبضعة أعوام انصرف فيها الى العمل السياسي رئيساً لجمهورية تشيكوسلوفاكيا ثم لجمهورية تشيكيا بعد الانفصال الذي جعل الدولة دولتين، وكان هو في طليعة المعترضين عليه. في العام 1989 احتل هذا الكاتب الذي كان منشقاً أيام الحكم البولشيفيني كرسي الرئاسة، منتقلاً من طبقة المناضلين والمحتجين الى مرتبة السلطة الأولى، ومن ظلام السجن الذي أمضى فيه نحو خمسة أعوام الى أضواء الحكم الديموقراطي. وفي العام 2003 غادر الرئاسة بعد أن حقق بضعة آمال كان شعبه يصبو اليها، هذا الشعب الذي عاش حالاً من التأرجح بين قبضة موسكو ووهم «الحلم» الأميركي وحقيقة الانتماء الأوروبي. وطوال أعوام الرئاسة أدى هافل دور «المثقف الفاعل» كما وصف، وقد نجح تماماً في الدمج بين شخصية المثقف المنشق والمعارض، وشخصية الرئيس أو «الحاكم». ولعلّه استطاع أن يجسّد فكرة الجمع بين الثقافة والسلطة، بين الهامش والحكم، في أجمل صور هذه الفكرة القديمة والشائكة. قد لا يكون الكلام عن الرئيس فاتسلاف هافل الذي دامت «ولايته» نحو خمسة عشر عاماً، مواتياً بعد فوزه بجائزة كافكا، مواطنه وأحد مراجعه الأدبية، لا سيما أن هذه الجائزة واحدة من أرقى الجوائز في العالم، وقد فاز بها سابقاً كتّاب كبار من أمثال: فيليب روث وهارولد بنتر وهاروكي موراكامي وأيف بونفوا. وقد تكون هذه الجائزة حافزاً على استعادة هافل كاتباً مسرحياً طليعياً، بدأ عبثياً ثم انشق عن هذا التيار الذي أسسه صموئيل بيكيت، ليصنع مسرحه الخاص الذي أراده مزيجاً من العبثية والتمرّد الوجودي والاحتجاج والالتزام... وعلى رغم انشقاقه عن معلّمه الأول بيكيت فإن صاحب «غودو» لم ينثن عن اهدائه أحد نصوصه وعنوانه «كارثة». وهذه كانت أجمل تحية يرفعها كاتب رائد الى كاتب كان يعدّ نفسه بمثابة التلميذ. أما مواطنه الروائي ميلان كونديرا فكان يصرّ على وصف حياة هذا المنشقّ الذي لم يخشَ البتة النظام البولشيفي وظل يواجهه تحت سقفه، ب «العمل الفني»، وهذه الصفة تمثل فعلاً جوهر التجربة التي خاضها هافل، جاعلاً منها مادة استلهامه المسرحي والأدبي. وهي كانت تجربة شخصية وجماعية في آن واحد، تجربة الفرد المضطهد والجماعة التي تحلم ب «ربيع» آخر بعد «ربيع براغ» الشهير. هل سيعود هافل ابن الرابعة والسبعين الى الكتابة المسرحية؟ ماذا سيكتب الآن بعد أن توقف أعواماً عن الكتابة؟ هل سيكتب عن الماضي الذي كاد أن يستنفده في أعماله؟ أم سيكتب عن السجن والحبّ الذي لم يفارقه والذي دفعه الى كتابة «رسائل الى أولغا»، هذا الكتاب البديع الذي يضمّ أجمل ما يمكن أن يُكتب من رسائل حب؟ في العام 2007، بعد أربعة أعوام على مغادرته الرئاسة، كتب هافل مسرحية عنوانها «المغادرة»، وهي كما يدل العنوان تدور حول «هجر» السلطة، هذا الموضوع الذي تجلّى في مسرحية شكسبير «الملك لير» ومسرحية تشيخوف «بستان الكرز». إلا أن هافل شاء مسرحيته هذه هزلية وعبثية وساخرة بمرارة، وقد عمد فيها الى فضح آلية «التسلّط» والمكائد التي تحاك سراً وعلانية، و «الأفخاخ» التي تُنصب للإيقاع ب «الآخرين» وأوهام اقتصاد السوق وأخلاقياته السلبية... لم تخلُ هذه المسرحية من طابع السيرة الذاتية، مع أن هافل لم يحدّد اسم البلاد التي تشهد «المؤامرة»، ولا من رؤية هافل نفسه الى عالم السياسة الحافل بالفساد والكذب والنفاق والطمع... وعندما قُدّمت المسرحية في تشيكيا ودول أخرى لقيت نجاحاً شعبياً وكرّست عودة هافل الى المسرح. بدت هذه المسرحية كأنها ترسم خطاً فاصلاً بين ماضي هافل ومستقبله المجهول ككاتب مسرحيّ، وبدت أيضاً كأنها تحية وداع لهذا الماضي ورموزه. ومن الصعب التكهن بما سيكتب هافل بعدها: هل سيواصل خطّه هذا أم سيلجأ الى لعبة أخرى؟ كيف ستكون معالم هذه اللعبة؟ وحده هافل يملك الأجوبة هو المعروف أصلاً بطرح الأسئلة الصعبة. ووحده أيضاً يعلم إن كانت الرئاسة أفقدته «سلطة» الكتابة وجففت منابع إلهامه. في العام 2006 أمضى هافل ثمانية أسابيع في الولاياتالمتحدة، وألقى خلالها محاضرات في جامعة كولومبيا وشارك في حوار عام مع الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون. ولا أحد يدري إن كان تذكّر خلال تلك الأسابيع الأميركية، الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر الذي كان يدمن قراءته، ومقولته التي طالما توقف عندها، تلك المقولة التي يعلن فيها صاحب «الوجود والزمن» أنّ قدر أوروبا أن تقع بين الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة، وأنّ هاتين الدولتين في المنحى الإيديولوجي، متشابهتان وهدفهما واحد. إلا أن هافل، بعيد عودته من الولاياتالمتحدة، نشر نصوصاً بديعة هي أشبه باليوميات أو المذكرات، أرفقت بحوار شامل كان أجراه معه كارل هغيزدالا وحمل الكتاب عنوان «للحقيقة». وهذه النصوص تلقي ضوءاً ساطعاً على مسار هافل المسرحي والفكري والسياسي، وتنمّ عن براعة في كتابة مثل هذه النصوص التي تخترق تخوم الأصناف والمدارس.