لم يمض عام على وفاة الفنانة الأميركية نانسي سبيرو (مولودة عام 1926) حتى قرر متحف مركز بومبيدو تنظيم أوّل معرض استعادي لها نتعرّف فيه على أبرز إنجازاتها، ومن خلال هذه الإنجازات، على مختلف المراحل التي عبرتها بفنّها. ولا نعجب من استباق هذه المؤسسة الفنية الفرنسية المرموقة كل «زميلاتها» الأميركية في تكريم هذه الفنانة النسوية الثائرة، فباريس كانت، ولا تزال، ساحة رئيسة لانطلاق الكثير من الفنانين عبر العالم، بينهم عددٌ مهم من وجوه الفن الأميركي الحديث والمعاصر، مثل سبيرو نفسها. وفعلاً، بعد أربع سنوات من الدراسة (1945-1949) أمضتها في «معهد شيكاغو للفن» الذي يُعتبر أحد محافل الفن التصويري في الولاياتالمتحدة الذي يناهض مدرسة نيويورك وتعبيريتها المجرّدة، انتقلت سبيرو في بداية مسارها إلى باريس حيث درست عاماً كاملاً في كلية الفنون الجميلة وفي محترف أندريه لوت الشهير. وفي هذه المدينة حققت أوّل سلسلة لوحات تحت عنوان «كارنيفال» يتجلى فيها أثر الفنان الفرنسي الكبير جان دوبوفي، قبل أن تعود إلى وطنها. وحتى عام 1965، تبقى لوحاتها قاتمة تطغى عليها وجوه وأجساد بشرية مرسومة بشكلٍ موجز. لكن بموازاة هذه اللوحات حققت أعمالاً على ورق نستشفّ فيها يُسراً أكبر في العمل والإبداع، كما في الرسوم المطبوعة حيث الوجوه تحافظ على الضخامة المتّبعة في لوحاتها لكنها تكسب حضوراً شفّافاً وطيفياً. عام 1959، وبفضل منحة من مؤسّسة فورد حصل عليها زوجها الرسام ليون غولوب، استقرت سبيرو من جديد في باريس حيث تابعت عملها وأنجزت سلسلة «اللوحات السوداء» التي تُشكّل آخر أعمالٍ لها على قماش، وقد استبدلت فيها صور النساء المعبودات والأمّهات الحاميات المشاهَدة في لوحاتها السابقة والمستعارة من كل الثقافات بسلسلة مشاهد عشقٍ بين آلهة مختلفة منفّذة بأسلوبٍ تختلط فيه مراجع تعود إلى الأواني الإغريقية وفن المتاحف وفن بيكاسو خلال العشرينات. وفي هذه الفترة، احتل الرسم على ورق مساحةً أكبر في عملها استعادت فيه مواضيعها السابقة لكن ضمن معالجة أكثر راديكالية. إذ تبدو الشخصيات المتعانقة داخله أكثر ضراوةً وتشبه الأمهات أكثر فأكثر الوحوش الكاسرة، كعمل «الأم العظيمة» التي ترضّع أربعة أو خمسة أطفال في آنٍ واحد. وفي بعض هذه الأعمال، تظهر مخلوقات غريبة تشبه الشيق (murène) وتصرخ بقذارات وهي تمدّ لسانها، كما نشاهد في أحدها ثلاثة ملائكة شريرين يقذفون أيضاً بكلماتٍ بذيئة وبعباراتٍ عنيفة تترجم سبيرو بواسطتها غضبها كفنانة شابة لا يلتفت إلى عملها أحد. ولدى عودتها إلى الولاياتالمتحدة عام 1964، تنتهي مرحلة «اللوحات السود» فور اكتشافها فظائع حرب الفيتنام من خلال الريبورتاجات المبثوثة على التلفزيون الأميركي، فيتفجّر غضبها في هذا الاتجاه عبر سلسلة أعمالٍ جديدة بعنوان «سلسلة الحرب» تتخلّى فيها عن الرسم على القماش بألوانٍ زيتية الذي رأت فيه ممارسة ذكورية لمصلحة ورقٍ رقيق ورخيص ومادة الغواش. وفي هذه الأعمال التي حققتها الفنانة على شكل بيانات تعزيمية مناهضة لحرب الفيتنام، نشاهد قنابل مصوّرة على شكل العضو الذكوري ورؤوساً صارخة تملأ دخان الانفجارات وتنفث بسمّها على الضحايا، كما نشاهد بعض الوجوه المستخدمة في أعمالٍ سابقة تأخذ معنى سلبياً جديداً، كالمرأة المتعددة الأثداء التي تظهر على شكل مروحية قاتلة أو الرأس الذي يمد لسانه بسخرية وعنف ويبدو كقنبلة في صدد الانفجار. وتسمو سبيرو في هذه الأعمال فوق أحداث حقبتها الدامية والفظاعات التي اقترفها الجيش الأميركي في الفيتنام لتنخرط داخل تقليدٍ ملحمي يربطها بالعالم القديم وقصصه الحربية وبعالم القرون الوسطى ورؤاه المرعبة لنهاية الكون. أما نجاح هذه الأعمال فيعود إلى تقنيتها الجديدة وسرعة تنفيذها لرسومها، ولكن أيضاً إلى غضبها كطاقةٍ مستشعرة داخل كل أعمالها. سلسلة الحرب عام 1969، وبموازاة استمرارها في «سلسلة الحرب»، استوقفتها شخصية أنتونان أرتو فتماثلت بها واكتشفت نفسها في غضب الشاعر وعنفه وإحساسه بالكبت والحرمان، الأمر الذي دفعها إلى تنفيذ ستين عملاً على ورق استخدمت في كل منها أقوالاً له أضافت عليها عناصر ملصقات ووجوهاً ورموزاً من ثقافاتٍ مختلفة. وتعادل «أعمال أرتو» بعنفها وغضبها «سلسلة الحرب»، لكنها تتميّز بالجانب الشخصي لمضمونها. وفي هذه الأعمال، كما في التشكيلات اللاحقة التي رصدتها أيضاً لموضوع أرتو، ابتكرت الفنانة تقنية الشرائط الورقية الملصوقة ببعضها البعض التي ثابرت عليها كركيزة لعملها حتى وفاتها، كما عمدت إلى استبدال كتابتها اليدوية السريعة لبعض الجمل أو النصوص بالآلة الكاتبة التي تسمح بمعالجة طباعية تزيينية تستحضر أسلوب الدادائية وبعض الطلائع الفنية الروسية. وخلال السبعينات، بقيت هذه المعالجة كإحدى عناصر عملها، كما في سلسلتَي «إبحث ودمِّر» و «ساعات الليل» اللتين استخدمت فيهما أختاماً لكل حروف الأبجدية كتبت بواسطتها، وبالحبر الأسود أو الأحمر، بعض مفردات الجيش الأميركي الخاصة خلال حرب الفيتنام مرفقةً بصور مرسومة أو عناصر ملصقات مختلفة. وكنتيجة طبيعية لالتزامها قضايا المرأة، اختارت سبيرو في منتصف السبعينات النظر إلى العالم من خلال صورة المرأة حصرياً. وفي هذا السياق، بدأت بابتكار أبجدية جديدة مؤلّفة من صور نساءٍ من كل الأزمنة وكل الثقافات أسقطتها على شكل أختامٍ حديدية جاهزة للاستخدام. وداخل هذه الأبجدية «الهيروغليفية» نعثر على الإلهة السلتية شيلا نا غيغ إلى جانب الإلهة - الأم الرومانية سيبيل وجوزيفين بايكر وراقصة إغريقية ومرلين ديتريش ونادبات مصريات وراقصة غوغو يابانية والإلهة - الصيادة ديانا... وخلال الثمانينات، أخذت هذه الصور أهمية أكبر في عملها وإن بقيت موجزة وذات جانب تزييني، كما في عمل «مردوك» (1986) الذي تستحضر فيه ملحمة غلغامش، ومن خلالها، عملية القتل الوحشية للمرأة تيامات. وفي التسعينات، يفرض عملها «الأسود والأحمر» (1994) نفسه كأبرز إنجاز خلال هذا العقد نظراً إلى الجهد التلويني في خلفيته الذي يذكّرنا بالمسطّحات اللونية لتيارَي التعبيرية المجرّدة والتجريد الهندسي الأميركيين، وإلى عدد الوجوه وطريقة انتشارها على نحو خمسين متراً من الألوان النيّرة والمشبّعة. وفي العقد الأخير من حياتها، أنجزت سبيرو أعمالاً مهمة، مثل «سباق البدل» (2000) الذي تطغى عليه صورة محظية يونانية تقوم بهذا السباق، علماً أن الألعاب الأولمبية كانت في اليونان حكراً على الرجال، أو النسخة الجديدة من «ساعات الليل» التي تختلف عن الأولى بتخلّي الفنانة فيها عن النص المكتوب لمصلحة أبجديتها «الهيروغليفية» الحيّة التي تعبّر عن نفسها بواسطة حركة الحروف - الأجساد حصرياً، أو التجهيز الذي حققته تحت عنوان «صرخة من القلب» ويتميّز بطابعه القاتم وبتخطّي سبيرو فيه ألمها الشخصي للشهادة على ألم وحداد مئات آلاف الأشخاص بسبب الحروب الأميركية في أفغانستان والعراق