ما كان الصحافي والمدوّن اليمني محمد عبده العبسي (35 سنة)، على الأرجح ، ليقرر الزواج لو علم أن حياته ستكون أقصر من شريط الفيديو الذي يوثّق حفلة زواجه على موقع «يوتيوب». فبعد نحو 3 شهور من زواجه، مات العبسي في 21 كانون الأول (ديسمبر) في صنعاء من دون مقدمات مرضية، مثله مثل يمنيين كثر يأتيهم الموت خاطفاً أشبه بمصافحة. وعلى النقيض من الأحلام الواسعة التي دفعت اليمنيين للخروج الى الشوارع في 2011، للمطالبة بإسقاط النظام، ضاق فضاء العيش وانحسرت إمكانات الحياة في هذا البلد الأفقر، والذي يشهد منذ نحو سنتين حرباً أهلية طاحنة، حتى بدا الموت قاعدة والحياة استثناء. ولئن شكلت وفاة العبسي صدمة لأسرته وأصدقائه ومعارفه، يبقى العبسي محظوظاً مقارنة بكثر من اليمنيين العاديين الذين يموتون في شكل شبه يومي من دون إعلان. فبينما كانت أسرة العبسي تستعد لمراسم الدفن، تحدثت نقابة الصحافيين عن احتمال تعرّضه لعملية اغتيال بمواد سمية، مطالبةً بتشريح الجثة على يد جهة طبية مستقلة. وكالعادة حين يتعلق الأمر بالنشطاء والمشتغلين بالشأن العام، تحولت وفاة العبسي الى قضية رأي عام وموضوعاً لتبادل اتهامات بين أطراف الصراع. وذهب أصدقاء للعبسي وزملاؤه الى احتمال تسميمه من جانب ميليشيا الحوثيين والرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، التي تسيطر على صنعاء، موضحين أن العبسي كان يعمل على تحقيق صحافي يتناول متاجرة قيادات في الميليشيا الانقلابية بالنفط. في المقابل، اتهمت وسائل إعلام موالية للانقلابيين خصمهم الزعيم القبلي ورجل الأعمال حميد الأحمر المقيم خارج البلاد، باغتيال العبسي. وفي مختلف الحالات، تظل حياة اليمنيين هدفاً لأطراف الصراع ومتاجراتهم السياسية»، وفق ما تقول ل «االحياة» الناشطة رضية غيلان، مؤكدة افتقار النخب اليمنية الى قيمة احترام الحياة والحقيقة وتقديسهما معاً. ومنذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية السلمية في 2011، وحتى اندلاع الحرب التي تشهدها البلاد على خلفية انقلاب مسلح تنفذه منذ أيلول (سبتمبر) 2014 ميليشيا الحوثيين (حركة أنصار الله) المدعومة من إيران والقوات العسكرية التي أبقت على ولائها للرئيس السابق، ارتكبت انتهاكات جسيمة ومنها مجزرة جمعة الكرامة 21 آذار (مارس)2011، التي قتل فيها حوالى 50 متظاهراً، بيد أن لا تحقيق جاداً أجري في مختلف الانتهاكات ناهيك عن معاقبة المتسببين. في نهاية 2015، ماتت المذيعة اليمنية جميلة جميل في ظروف غامضة شبيهة بظروف موت العبسي، وبرزت حينها مطالبات بتشريح جثتها، بيد أن القضية ذهبت أدراج الرياج مثلها مثل كثير من القضايا المماثلة. والحق أن التوظيف السياسي والإعلامي للانتهاكات يرجع الى سنوات سابقة على الصراع المسلّح. ووفق الناشط شهاب حسين، فإن موت اليمنيين ومعاناتهم صارا سوقاً رائجة ليس لأطراف الصراع اليمني فقط بل وللهيئات الأممية والمنظمات الإغاثية. وتفيد تقارير بفساد في عمليات توزيع المساعدات الإنسانية في اليمن. وعلى رغم فظاعتها، خصوصاً لجهة تدهور الأوضاع الإنسانية، ما زالت حرب اليمن تعد «حرب فرجة» بالنسبة الى المجتمع الدولي. وتفيد معلومات بأن الأطراف المتصارعة توزّع المساعدات على أنصارها في وقت لا تصل مساعدات المنظمات الإغاثية سوى الى عدد محدود من الجياع الذين يشكلون 80 في المئة من السكان. وترى رضية غيلان في توقف صرف رواتب الموظفين الحكوميين منذ 4 شهور، «دليل توافق» بين الانقلابيين والحكومة الشرعية على سياسة «جوع كلبك يتبعك»، مشيرة الى أن الموت أيضاً صار محكوماً بالولاءات، مستدلة بالمدرسة الجامعية، أمة العليم الأصبحي، التي قتلت الأسبوع الماضي في مدينة تعز بقذيفة يعتقد أن مصدرها ميليشيا الحوثيين، «ولم يحصل قتلها سوى على تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي».