يظهر أثر الحنين إلى الجذور، في شعر محمد عفيفي مطر، مفردات وتراكيب ومجازات وتشابيه، تضميناً وتناصاً في آن وليس أدل على ذلك من هذا الجزء الطويل من قصيدة «فصل المبتدأ المؤخر» من الربع الخاص بالماء في «رباعية الفرح». وربما كان أول ما يتداعي إلى الأذهان، في تجاوب سياقات الدلالة، في هذا الجزء من شعر محمد عفيفي مطر، هو العودة على «احتمل غمة البرمكيين» التي يبدو السياق، في النص الأخير، مبشراً بانتهائها حتماً ولذلك يأتي السؤال من صاحبته المنتسبة إلى ميراث الأسلاف، وداعية العودة إلى الجذور بالصيغة القرآنية «عم يتساءلون» وهي الآية الأولى من «سورة النبأ» التي تحمل سؤالاً استنكارياً هو بمثابة الأسئلة الشاكة في «القيامة» التي هي «اليوم الحق» في السورة وهو يوم لا ريب فيه، مهما تشكك المتشككون، ولذلك تأتي الإجابة عن السؤال الافتتاحي الذي هو تضمين قرآني بتضمين قرآني آخر «قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون» والتضمين كله من سورة «النحل» الآية السادسة عشرة، ويبدو كأنه تأكيد للوعيد في السؤال «عم يتساءلون؟» أما عندما تقول صاحبة المتكلم لا تحزن أفليست الأرض واسعة؟ فإن سؤالها اللاحق لفعل النهي يومئ إلى أبيات كثيرة من الشعر العربي، يجد المرء في اتساع الأرض حوله ما ينأى به عن الأذى ولكن فعل النهي «لا تحزن» تضمين للآية «إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا» (التوبة/ 40) وهى آية مرتبطة بهجرة النبي من مكة التي اضطر إلى الرحيل عنها بعد أن عانى من المشركين ما عانى، وصاحبه يهدئ من روعه، مؤكداً أن الله معهما، وأنهما في حماة من بطش الكفار القدامى أو البرمكيين المحدثين ولذلك يجيب الشاعر صاحبته متمنياً أن ينال خصومه جزاء ما استعلوا به، وملكوا الأرض، وليدمدم عليهم غضب الشعب بما أجرموا وهي إجابة لا تخلو من تضمين قرآني، يدل عليه الفعل «يدمدم» الذي يشير إلى نظيره القرآني «فدمدم عليهم ربهم بذنبهم» (الشمس/ 14) والدمدمة تعني الإهلاك والتدمير الذي لا بد أن يحل على المشركين الجدد، قاطعي الفروع عن الجذور ولذلك تقول صاحبة الشاعر له ما يشير إلى ماضيه الذي يحمل عبأه على كتفيه، ويغترب عن دنياه في سبيله، فتربت على العصب المتوتر منه، مؤكدة له أنه على الحق، وأنه لا بد أن يسمع سمع الطاعة لآبائه، فهم منجاته، وهم «رادوه إلى معاد» هو طعم القهوة ونكهة الهيل وشميم الحطب في نار القبيلة الأصل والتضمين لافت مع الفعل الذي يذكّرنا بالآية «إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد» (القصص/ 85) ويجمع ابن كثير والطبري والنَّسفي وغيرهم على أن «معاد» هي مكة، وأن معنى الآية تأكيد لعودة الرسول إليها وفتحها وحتى لو فهمنا المعاد بمعنى المصير في الجنة، فإن هذا المصير مرتبط بدال «القيامة» التي ينتظرها الشاعر شرطاً من شروط عودة الفروع إلى الجذور أعني تلك الجذور التي هي البدء والمعاد، والمقترنة بطعم القهوة ورائحة الحطب التي تنضج في إبريق موضوع عليه، فضلاً عن نكهة الهيل التي لا تفارق قهوة بادية الإسلام وهو مشهد يستدعي رؤى تضيق بها العبارة التي تحلل عقدة الكلام الذي لا بد من عقده بما يجعله في مكنة الإفهام التي لا تدري إلا محسوس إلا بلغة المحسوس، لكن عبر لغة الرموز التي يعرفها أصحابها، وتكون علامة عليهم وقاسماً مشتركاً بينهم، وذلك في انتظارهم «القيامة» التي إذا جاءت امتلأت بهم الشعاب، كما امتلأت شعاب مكة بالمسلمين الذين أعادهم الله إلى معاد. والإشارة إلى انتصاف الليل، في السياق، إشارة إلى مفرق الفصول، وملتقى الطرق على السواء وهنا تعود الصديقة إلى السؤال الحاسم عن ما يفعله الشاعر بالذين كادوا لحضارته؟ وهل هو مدمِّر لهم ومهلك لشياطينهم ومحبط لأفاعيلهم، وذلك من خلال الفعل التراثي المهجور «تَبَّر» الذي هو من جنس المقام، وتسهم دلالته في كسر ظلمة الفولاذ، فتبدو كأنها صرح ممرد من قوارير، قابل للكسر والهيمنة، كتلك الهيمنة التي أخضع بها سليمان الحكيم بلقيس إلى سطوته، كما تحكى سورة النحل، فيلمع سيف مشرع من أقاصي الأرض، حيث يسكن المهمشون الذين يرثون الملك، هذا السيف يعيدنا إلى التضمين القرآني، فله مكاء وتصدية، في إيماءة إلى الآية «وما كانت صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية» (الأنفال/ 35) ولا يكتمل المشهد الأخير إلا ببعض ما يعيدنا إلى شيء من دلالة تضمين السؤال الأول «عم يتساءلون» وهو تضمين يردنا إليه التضمين الأخير عن المكذبين بيوم «القيامة» و«عودة الفروع إلى الجذور» فتقرأ السطر الأخير «لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتَّبعوك» وهو النصف الأول من الآية التي يكملها قوله تعالى «ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون» (التوبة/ 42). ولا أريد أن أتوقف عند التجريب الإيقاعي، وخلط البشري من كلام الشاعر بالإلهي من آيات الله، فالأهم هو ملاحظة اللغة والمجازات المستخدمة، فضلاً عن الأفعال المهجورة مثل «تَبَّرَ» أو الجموع اللافتة مثل «خواتل المجاز» الذي يعنى مراوغات اللسان، فكلها ظواهر دالة على الكيفية التي تحاكي بها اللغة الشعرية عودة الفروع على الجذور، فيعود المعجم الشعري والتراكيب المجازية إلى أصل البداوة، وإلى صفاء لغة الصحراء المنبع التي تحن إليها لغة محمد عفيفي مطر الشعرية حنين الفروع إلى الجذور، ولكن بما يضع هذه الجذور في عبقها الإسلامي الذي ينتقل شميمه من عرار نجد إلى لغة شاعر معاصر يصوغ يوتوبيا خاصة به، لا يتردد في محاكاة لغة القرآن بإيقاعاته وتراكيبه تقديساً للأصل الواحد الذي تكثر وانتثر في عالم انتصر فيه البرمكيون وأشباههم، فيدرك الرائي الشاعر أن طريق النجاة هو ما باح به جعفر بن علبة الحارثي الذي قتل عام 143ه، لكنه ترك لنا علامة هذا الطريق التي تقول: هواي مع الركب اليمانيين مُصْعِدٌ/ جنيبٌ وجثماني بمكة موثق. وهو مطلع مقطوعة عذبة، يضمنها محمد عفيفي مطر، بعد ذلك، ليجعلنا نرى ما وراء الغيب، ونعود بحركة الزمن إلى الوراء مع الذاكرة إلى حيث يكمن منبع نور الإسلام ونبيه الذي سيظل واحدها وأمته أعضاؤه التي انتثرت إلى أن يأتي زمان «القيامة». وإذا كان الحنين إلى هذا الزمان يعطي درجة الأهمية القصوى للذاكرة بصفتها وسيلة السفر إلى الزمان الذي كان والسفر فيه في آن، فإن التناص هو اللازمة الشعرية التي تصل ما بين الحضور والغياب، وترد النص عند محمد عفيفي مطر إلى مئات، إن لم يكن آلاف النصوص الغائبة التي تراوغ الذاكرة، ولا تكف عن مراوغتها، فيغدو الفعل «أتذكر» المعلن والمضمر، ومعه مشتقاته وأسماؤه، مفتاحاً من مفاتيح قصيدة محمد عفيفي مطر، فنقرأ على سبيل المثال. أتذكر مخلاة لعبك والمقلمة النحاسية ومجمرة الرمل وريشة النسر أتذكر شجر الزنجار الأخضر ورائحة التراب ومخطوطة شرح القطب على الشمسية ونحو الأشموني وسلم السَّاوىِّ وإيقاع الرجز في الألفية أتذكر حمرة الألف والياء في خطبة جدك عامر للجمعة اليتيمة وزخرفته الباهتة لهبوب الريح من تلقاء كاظمة وإيماضة البرق في الظلماء من إضم. وليس من المبالغة أن نقرأ إشارة التناص إلى بردة البوصيري على أنها حنين إلى عالم قديم، تعيدنا إليه إشارات رمزية تهب من تلقاء كاظمة، كأنها إيماضة البرق من إضم، وذلك في سياق رؤية عالم يحن كل ما فيها إلى عصر ذهبي، متخيل، يقع في الماضي، وتسترجعه الذاكرة التي هي فعل من أفعال الخيال الذي يعيد تركيب هذا الماضي على هواه، وفي رد فعل على حاضر محبط، تتهدد فيه كوارث عديدة الهوية القومية والهوية الدينية على السواء، وتعصف بها تحديات ومخاطر كثيرة من الداخل والخارج على السواء ويبدو أنه لا سبيل إلى مواجهتها إلا باستعادة ماض متخيل، تعيد الذاكرة تركيبه بواسطة خيالها الاستعاري والتأويلي في آن، درءاً للمخاطر، وتأسياً بماض مزدهر، شهد ما تلوذ به الهوية في مواجهة أعدائها القدامى والمحدثين على السواء ولكن بما يرد التأويل على الاستعادة، ويسقط الماضي المتخيل على حاضر لا تفلت عناصره من فعل التأويل نفسه، فيغدو الحاضر الذي تراه عدستا الأنا الشاعرية حاضراً لا يخلو من تأثير الخيال التأويلي، شأنه شأن الماضي ويمكن أن نشير، في هذا السياق، إلى أمرين، أولهما قديم يتصل بالحضارة الفرعونية التي هي أصل لا يمكن تجاهله من أصول الهوية عند شاعر مصري، وثانيهما يتصل برؤية الأنا الشاعرة لشعراء الآخر، في الغرب ماضيه وحاضره. أما الحضارة الفرعونية بما فيها من غنى روحي وأسطوري وجمالي فقد لاحظت تجاهلها الكامل في شعر محمد عفيفي مطر، بل هناك نظرة مستهينة بها، مقللة من شأنها في مذكرات الشاعر عن فترة التكوين «أوائل زيارات الدهشة» ويجاوز الأمر التهوين البالغ إلى درجة الاتهام للمفكرين المصريين الذين عُرِف عنهم الاحتفاء بالعنصر الفرعوني من العناصر التكوينية للهوية المصرية ولم استغرب أن أقرأ له في «هوامش التكوين» من قوله: «فلو أن سلامة موسى ولويس عوض وغيرهما من المرضى والمتعصبين كانوا يملكون القدرة والفرصة لكانوا أول من يحمل المعاول لهدم ما بقي من مصر القديمة، لكني كنت أعرف مما أقرأ وأسمع من المدرسين والزملاء أن المسألة ليست مسألة مصر القديمة التي يستحيل إحياؤها واستردادها خارج منظومتها الكلية، وإنما المسألة هي القناع الضيق الذي تستأنف من ورائه معركة أخرى مستحيلة لإيقاف عمرو بن العاص خارج الحدود وإنزال هزيمة لم تكن به وإعادة تحصين الفرما وبلبيس وبقية القلاع والحصون والمدن وذلك محض خبل وجنون تعصب وقبح طائفية وعنصرية، كنت أقول لنفسي إن دنيانا لا تكاد تحتمل بقايا أشباه الفراعنة وتتململ تحت بقايا ممارساتهم وطقوس تألههم من أصغر مرشد ومخبر حتى عتاة الديموقراطيين المنتخبين والثوار الانقلابيين والزعماء المعلمين الملهمين وظلال الله في الأرض - فما بالكم بالمنظومة الفرعونية الكاملة». والحق أن هذه نظرة مغرقة في أصوليتها الإسلامية التي لا تفارق التعصب الديني الذي انطوى عليه محمد عفيفي مطر، وظل ملازماً له، في إيديولوجيا العودة إلى الجذور، سواء بمعناها القومي الذي ينقلب إلى نزعة عرقية عربية، تستريب في العناصر والطوائف المختلفة عرقاً، أو بالمعنى الديني الذي ينقلب، بدوره، إلى نزعة تعصب مستريبة أو معادية للمخالفين في العقيدة ولذلك لم يتعاطف محمد عفيفي مطر مع الماركسية أو الوجودية أو حتى الليبرالية، فناصب الشيوعيين العداء والرفض وناصبوه العداء، خصوصاً حين انضم إلى حزب البعث في سنواته العراقية. وحينذاك أصبح منبوذاً محتقراً من الشيوعيين العراقيين الذين آذاهم موقفه المؤازر لصدام حسين عدوهم اللدود، ولم ير فيه الوجوديون والليبراليون سوى صاحب يوتوبيا إسلامية رجعية، تسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فظل مغترباً نائياً عن التيارات التقدمية في وطنه، منظوراً إليه في ريبة عندما ذهب إلى العراق، متطلعاً إلى بعث صدّامي، فظل نائياً عن جميع التيارات الصاعدة، ينكرها بالقدر الذي أنكرته، والنتيجة أننا لا نرى انتماء أصيلاً صادقاً، في شعر محمد عفيفي مطر، إلا إلى الجذور الدينية القومية. وقد سبق أن قلت إن شعر عفيفي لا يحتوي في فضائه على مدينة مصرية ولا يعرف من مصر سوى النيل والخضرة إلى تحيط «رملة الأنجب» في تداعيات الألوان التي تلازم هذا الشعر، فعالم محمد عفيفي مطر الشعري يستبدل بالنزعة الوطنية النزعة القومية، وبالتعددية العرقية والدينية الواحدية العرقية والثقافية ولذلك ظل الفضاء الشعري للعصر الذهبي، في رؤيته للعالم، هو الفضاء العربي الصحراوي، كما ظلت الجنة الضائعة أو الفردوس المفقود هو أفضل القرون الإسلامية، أو قرنها الأول الذي لم يأت من بعده إلا ما هو شر منه.