لقد كان السُّكر يأكل جسده النَّحيل أصلاً، فيما ينكره تماماً وينسى مجرَّد وجوده في جسده، ويتلهّى به كما لو كان قدراً محتوماً لا مفرَّ منه من دون أن يكترث. أعتقد بدوري أنَّه كان يحاصره بكلِّ قوة، ويقضي عليه بالتَّجاهل، ويلقِّن لا وعيه - من دون أن يدري - تجاهل المرض كي لا ينهي حياته سريعاً. الأمراض جراثيم يقتلها التَّجاهل، وكلُّ شيء في الحياة عموماً يقتله التَّجاهل أيضاً، هذه قناعة مسنَّنة تقتل أيَّ شيء بسهولة مطلقة، وتحاصر أيَّ ماء يتربَّص بك، فلا تغرق في الوهم والقلق والحيرة والشُّرود. كلُّ ما على جسدك أن يتقنه هو هذه اللُّعبة، لعبة التَّجاهل المقنّن، وعليك كي تعيش طويلاً أن تقتل في نفسك قدرة حصار المرض المطبق عليك، تلك القدرة التي تصوب رصاصها تجاه جدار حمايتك النَّفيسة لترديه قتيلاً، وتجني عليك بعدها وبلا أدنى مقاومة منك كما كان يقول الطّبيب لصديقه بصوت منخفض. الحياة كلعبة الشّطرنج ينهيها الحصار، وكلَّما قدمت قطعة جديدة للخصم، اتّسعت حرِّيّته، وضيَّق الخناق على حياتك على الرِّقعة، وكذلك المرض. يجب عليك أن تكون وزيراً لا وزراً على الرِّقعة كي تفوز باللُّعبة ومن ثمَّ الحياة. أتذكَّره وهو يصعد الدَّرج نحو منزله العالي، وبهذا كان يتقدَّم مع كلِّ درجة يصعدها إلى حصار السُّكر، وأعتقد أنَّ قلعته العالية كانت سبباً مقنعاً لحصار كهذا! فالسُّكر يربكه المشي الدَّائم ويحبط فخاخه التي ينصبها حول خلايا الجسد. وكعادة أهل مكَّة – بوصفها وادياً – يفضِّلون أعالي الجبال سكناً لهم فراراً من حصار الماء، ولقد اختار لمنزله موقعاً عالياً ومنيفاً كما لو كان يقرأ قدره السُّكري سلفاً. لقد اختار قلعة عالية، تسانده في ذلك خفَّة جسده النَّحيل، للتَّنقل على رقعات الحياة، لقد ناضل طويلاً ولم يلحق به الحصار، ولم يترك ماء حياته يغادره بسلام مطلق، أو يتسرَّب منه، حتى خذلته خفَّة ساقه اليمنى يوماً. *** الجدَّة تجلس عادة عند مدخل منزله العالي، شقَّتها قريبة إلى باب المدخل، إلى اليمين، لا أحد يجرؤ على دخولها إلا بوجود الجدَّة، وإلا كان نصيبه من غضبها كبيراً، وسيدفع ضريبة باهظة من أجل ذلك الدخول العابر. الجدَّة تسعينيَّة عمياء، قضت حياتها في تربية الخال وأخيه وأختهما الوحيدة، والعناية بزوجها قبل أن يغادر قبل ما يزيد على خمسة عشر عاماً، بقيت وحيدة إلا من العزلة، تصعد كلَّ صباح لتتناول مع ولدها الفطور المعتاد، وعند العصر تهبط إلى جارتها ريحانة في المنزل الأدنى، تعرف طريقها جيداً ولا تحتاج لأكثر من التَّأكد من وجودها في البيت ببعث ولد إليها، ليبلغها بحضور الجدَّة، وقبيل الغروب تعود بظهر شبه منحى في صعود إلى منزل ابنها، تتناول قهوة الغروب مع ابنها وزوجته أمُّونة، ومن ثمّ تصلِّي المغرب، بعدها تجلس على السَّطح المقابل لشقته في الأعلى حتى تصلِّي العشاء، وتتأهب بعد ذلك للنَّوم على السَّطح، أو تنزل إلى شقَّتها السّفلى، ولا شيء يحكم خياراً محدّداً للجدَّة سوى رغبتها، وقوَّة ملاحقة النَّوم لها. تحبُّ السَّن توب، مشروب البرتقال المفضَّل بالنسبة إلى الأطفال عادة، وهي أيضاً عادت القهقرى – بعد أن عمَّرت طويلاً - عادت طفلة تحتاج إلى السَّن توب، وإلى ملاطفة ابنها وعطفه، مرحلة انكسار دائمة لا يخرجها منها إلا موت هادئ يزحف بالجسد نحو برودة سفليَّة، إلى مرحلة أخرى تبدو احتمالاتها فحسب. الشَّيخوخة - كما يقال - مرض قاس بالنِّسبة لمن لم يتصوره، ذاكرة من المحو الدَّائم والكتابة الجديدة، صندوق أسود لا يمكن قراءة ما به ولا التّنبؤ بمحتواه، وحدها الذِّكرى تعدُّ مفتاحاً ملائماً لمن حاصرته الشَّيخوخة فجأة، ولم يتنصل من طرقها اللَّحوح على باب ذاكرته، والذَّاكرة مخزن مليء يحتاجه من أضحى في ظلال الشَّيخوخة في ظهيرة عمر يملؤها السَّموم. * مين معاك ولدي.. - حجَّه يمَّه، جبتها معايه علشان تنظف شقتك. تخرج له المفتاح من طرف شرشفها الأبيض، تحلُّ وثاقه، وتسلِّمه له قائلة: - بعدين رد لي مفتاحي. * من عيوني. - تسلم عيونك. * تسلمي لي. أخذ المفتاح وتقدَّم إلى الباب، وجد الباب موارباً كالعادة، دخلا معاً، وعلى سرير قديم راح الجسد الأفريقي يتعرَّق من جديد، ورائحة تلفُّ البيت ولن تغادره بسهولة. مقطع من رواية ستصدر قريباً للمؤلف.