لم يكن السودان موحّداً طوال تاريخه، أو بالأحرى طوال تواريخ أجزائه الكثيرة. ومعروف أنّ الأتراك قاموا، في 1820-1821، إبّان سلطنتهم العثمانيّة، بتوحيد «شمال السودان» فحسب. ثمّ قرّر البريطانيّون، في 1943، تهيئة الشمال وحده للحكم الذاتيّ، منشئين، للغرض هذا، مجلساً استشاريّاً. لكنّ الإدارة البريطانيّة شرعت تتحوّل، مع انتهاء الحرب العالميّة الثانية، عن الاستعمار وتعمل على نزعه. هكذا انسحبت من الهند ومن فلسطين، وقرّرت دمج الشمال والجنوب السودانيّين في ظلّ حكم واحد تمهيداً للجلاء عن البلد الحديث النشأة. وثمّة من يتندّر في السودان بأن الجنوبيّين لم يعرفوا، إلاّ بعد عام على القرار البريطانيّ، وإبّان «مؤتمر جوبا»، بأنّهم سوف يوحّدون مع الشطر الشماليّ. وهذا للقول إنّ الاستعمار البريطانيّ وحّد السودان أكثر ممّا يحتمل السودانيّون، ضدّاً على النظريّة الشائعة لدينا من أنّ الاستعمار إيّاه لا يفعل إلاّ تطبيق التجزئة وتفعيل التفريق من أجل أن يسود. والأمر هذا لا يقتصر على السودان، إذ يمكن قوله في بلدان عربيّة أخرى، لا سيّما العراق حيث جُرّ الأكراد من شعرهم إلى هذا الكيان الجديد، وبالطائرات البريطانيّة قُصفت انتفاضتهم الاستقلاليّة – الانفصاليّة التي تزعّمها محمود الحفيد البرزنجي في العشرينات. تحضر هذه التجارب وتلك التجارب المضادّة فيما السودان يتهيّأ لاستفتاء شعبيّ يُرجّح أن يردّه شمالاً وجنوباً منفصلين. ذاك أنّ نقص الوحدة في التاريخ هو ما كمّله نقص السياسة بعد نيل الاستقلال. فبالحكم العسكريّ ساس ابراهيم عبّود وجعفر نميري وعمر البشير ذاك البلد، وقد تخلّل الحكمَ العسكريّ، في سنوات مديدة منه، فرض الشريعة الإسلاميّة على الجنوبيّين وهم غير مسلمين. وبدورهم ردّ الأخيرون بانتفاضات متّصلة اتّصف بها تاريخ السودان الحديث. وهذا إذا اقتصرنا على ثنائيّة الشمال -الجنوب، ولم نقل شيئاً عن ثنائيّة الخرطوم - دارفور أو ثنائيّة المهديّة - الختميّة. بيد أنّ اختيار جنوبيّي السودان الانفصال ربّما جاء متساوقاً مع حساسيّة دوليّة جديدة مفادها البرم بعجز شعوبنا عن أن تغدو شعوباً وأن تقيم دولاً تتأسّس على حدّ من الإجماعات الوطنيّة. هذا ما ينضح به العراق واليمن ولبنان وفلسطين وبلدان أخرى يتبيّن الآن أنّ عجزها عن إحداث الانفصال كان أقوى الأسباب التي أبقت على وحدتها. والعجز هذا إنّما وجد سنده الأهمّ في حقبة الحرب الباردة التي ربطت ثبات الخرائط بصراع الجبّارين، الأميركيّ والسوفياتيّ، وبتوازن القوى وتقاسم النفوذ بينهما. أمّا وأنّ الحرب الباردة قد أفُلت قبل عقدين، فيما راحت الشعوب تكشف، بأشكال شتّى، عن رغبتها في تفكيك نفسها، فلمَ لا؟. ذاك أنّ الديموقراطيّة تقضي، إذا كان لا بدّ من مرجعيّة نظريّة، تخيير الجماعات في أمر مصيرها وفي تقريره. والجماعات، على ما يقول عديد تجاربنا، لا تستهويها الدولة - الأمّة التي ينتظم العالم المعاصر فيها، بل تنجذب إلى صيغ هي تنويعات طائفيّة وإثنيّة ومناطقيّة على الدولة – المدينة، حيث يقتصر الاجتماع السياسيّ على الشبيه وشبيهه. ومثل هذا التطوّر، في حال صحّته، عنصر إيجابيّ ومفيد، في وسعه أن يصحّح الخطأ الاستعماريّ، خصوصاً إذا ما ساهم في ضبط الدم وفي السيطرة على الغرائز القاتلة. ذاك أنّ أبشع ما في هذه الوحدات التي أقامها الاستعمار، ولا تزال مستمرّة بقوّة الغلبة، أنّها مصانع لدم قائم ولدم مؤجّل.