تبدو مفردة «التحريض» كرة نارية تتقاذفها أيدي التيارات للتخلص من الاتهام بها، باعتبار أن استعداء السلطة ضد المختلف فكرياً يعد مثلبة قيمية فكرية، إلا أن الحساسية السياسية بعد تعثرات الثورات العربية أعادت ما كان حاضراً إبان المد الشيوعي، من تحريض ووشاية مع المختلفين فكرياً. ليس التحريض استعداء للسلطة فحسب، إذ ثمة تحريض آخر لاستعداء الجماهير على من يختلف ويغرد خارج سرب الفكر الديني المحافظ أحياناً. في استعداء السلطة تحضر مفردات «عملاء للخارج»، «خونة»، «مرتزقة».. إلخ، وفي استعداء الجماهير تحضر مفردات «كفر»، «انحلال»، «زندقة، «رويبضة».. إلخ، ففي الوقت الذي يشتكي بعض الإسلاميين المعنيين بالسياسة من ممارسة التحريض ضدهم، يراهم خصومهم مارسوا التحريض واستعداء الجماهير ضد المختلف آيديولوجياً معهم، كما أن منتقدي التحريض الجماهيري يرون أن بعض الإسلاميين حزبيون يعملون ضد مصلحة الوطن. «الحياة» تسلّط الضوء على مدى «التحريض» ومدى حضوره في السجال الفكري والديني الحالي، بمشاركة عدد من المتخصصين. أكد الباحث والمفكر في الشأن السياسي الدكتور زيد الفضيل ل «الحياة» أن من أكبر ما ابتليت به أمتنا في الوقت الراهن تموضع «الرويبضة» كما جاء في الحديث في مكان أهل العلم ودرجتهم. وقال: «الواقع أن وصف الرويبضة لا يقتصر على أولئك الذين باتوا يسيطرون على المشهد الديني من دون علم شرعي كامل ومن دون إدراك ووعي بقواعد وأصول العلم الشرعي فقهاً ودلالة واستنباطاً، وإنما بات الوصف سارياً على كثير من فنون العلم على مختلف فروعه في الوقت الراهن، كما وإن كان تأثيره أكبر في المتعلق الشرعي بحكم ارتباط حياة الناس بذلك، وسرعة تأثيره في مجمل تفاصيل حياتهم من حيث الخيرية وعدمها، والمشروعية ونقيضها، إلا أن ملامح خطرهم في العلوم الأخرى بات أكبر وأشد». وأضاف: «لاسيما إذا ما أخذنا في الاعتبار أن جميع العلوم باتت مفتوحة معابرها على بعضها بعضاً، وأدركنا أن من يفتئت في مسائل لغوية من دون وجه حق، سيفتئت يقيناً في مختلف المسائل الشرعية، وسيمارس سلوكاً عدائياً ضد كل من يخالفه الرأي، لكونه ولقصور علمه ربما تصور أن أية مخالفة لرأيه تعني عدم الإيمان بمرجعيته الفكرية بوجه عام، أو سببها التشكيك في قيمته العلمية أيضاً». ولفت إلى أن حالة «التموضع» الجديدة لأولئك الرويبضة في كيان مجتمعاتنا أدت إلى انعدام حالة الاستقلال الفكري، في مقابل نمو حالة «الحزبية» البغيضة، التي تعتمد سياسة الولاءات والمحاور، من دون أن تلقي بالاً لقيمة الموضوع المطروح للمناقشة، وما إذا كان حاوياً فوائد علمية أم لا، وهو ما أدى إلى انقسام المشهد الديني والفكري في غالب مجتمعاتنا الإسلامية اليوم إلى مجاميع متباينة في الطرح والرؤى، لا رابط بينها من حيث البناء الفكري، ويقوم عمود كل مجموعة منها على تفنيد رؤية الآخر، والتقليل من شأنه، والعمل على إلغاء مشروعية ما ينتمي إليه من أفكار ورؤى من دون تأمل أو تفكير ولو من زاوية أخرى. وأرجع كثرة الخلافات الموصلة إلى إطلاق صفات الكفر والردة والمروق من الدين في عدد من النقاشات الدائرة بين بعض المنتمين إلى الفرق الإسلامية إلى حالة التموضع الجديدة للرويبضة، «على أن الأمر لم يعد قاصراً على أولئك وحسب، بل إن مصطلح الرويبضة وكما أشرت سلفاً انسحب على مختلف المجالات العلمية الأخرى، فبات لدينا بعض منهم في المجال الفكري والأدبي، وبالتالي باتت تلك الصفات الحدّية، والتحزبات السلبية واضحة في تفاصيل المشهد بأكمله». وأضاف: «لهذا الأمر تحول المشهد الثقافي في صورته الإسلامية على الصعيد المذهبي والطائفي، وفي صورته الفكرية والأدبية، من حالة خلاقة تقوم عراها على ثقافة التكامل واستيعاب مختلف المضامين والآراء باعتبارها آراء قابلة للخطأ والصواب، إلى حالة قاتلة للإبداع وخانقة لحرية الاجتهاد تقوم عراها على نقض كل ما بناه الآخر من دون أن يقترن ذلك الهدم بأي تبرير علمي منطقي أو استدلال شرعي وافٍ، وهو ما انعكس أثره سلباً على طبيعة وواقع حياتنا الاجتماعية والفكرية التي انكفأ فيها أهل الرأي والعلم رفضاً وخوفاً وعدم قدرة على مجاراة السائد الذي بات يشكل المشهد اليوم على مختلف أشكاله». فيما أكد عضو مجلس الشورى سابقاً الدكتور محمد آل زلفة ل «الحياة» أن التحريض هو إحدى أهم الوسائل التي استخدمها الخصوم في النيل من خصومهم، لدرجة الفجور في ما يذهب إليه البعض من إلحاق التهم جزافاً بكل من يختلف معهم في الرأي. وأضاف أن الخطاب التحريضي يراد به استعداء السلطة ضد الفئة المختلف معها، إضافة إلى استعداء شرائح من الجمهور ضد من يوجهون إليه خطابهم التحريضي من أجل كسب مشاعر وعواطف تلك الشرائح الجماهيرية، وغالبيتهم من الدهماء أو الغوغاء الذين غالباً ما يقفون أو يصطفون إلى جانب المحرض إذا كان يحمل خطاباً يداعب به مشاعرهم وأهواءهم ورغباتهم. وقال: «منذ أربعة عقود تقريباً وهناك خطاب تحريضي من التيار الإسلامي الذي كان يعمل جاهداً من أجل تجذير قواعده في المجتمع للوصول إلى ما أصبح يُعرف اليوم باسم الإسلام السياسي الذي استغلّ كل الظروف، ووظّف كل الإمكانات للوصول إلى غايته، كما تغلغل بقوة في مفاصل الدولة الأكثر تأثيراً في تشكيل عقلية أهم الشرائح المجتمعية المستهدفة، مثل وزارتي التعليم والإعلام، إضافة إلى صياغة برامج هاتين المؤسستين بما يحقق أهداف الإسلام السياسي، إذ صيغت وثيقتا سياسة التعليم والإعلام على أيدي دهاقنة هذا التيار من الإخوان المسلمين الذين استضافتهم هذه البلاد بعدما تعرضوا له من اضطهاد في بلاد عرفت حكوماتها خطورتهم على الأمن والاستقرار ومسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في تلك البلدان». ونبه إلى أن الدولة ربما انطلى عليها خطاب هذه الجماعة في ما يتعلق بتخويفها ممن صنفتهم هذه الجماعة ب «العلمانيين» الذين يعملون على تقويض قواعد الحكم في الدولة. وأشار إلى أن أصحاب هذا الخطاب التحريضي ظلوا فترة طويلة وهم يستعدون الدولة وبعض شرائح المجتمع من البسطاء ضد كل من حاول منذ فترة طويلة كشف ألاعيبهم وتدجيلهم على الناس وهم الشرائح المثقفة من الكتاب، وأساتذة الجامعات، وعلماء الإدارة والاقتصاد والقانون الذين تلقوا تعليمهم العالي في الجامعات العالمية، فأصبحوا من أجل ذلك الفئات المستهدفة من خطاب «الإخوان» ومن خرج من عباءتهم من «الصحويين» الذين تلقوا خطابهم، وذلك من خلال سيطرتهم على الجامعات الإسلامية، والمعاهد العلمية، ووسائل الإعلام، والمراكز القيادية في المؤسسة التعليمية، فحولوا البلاد إلى ما يشبه البلاد المكتشفة للإسلام حديثاً، وحولوا نسبة كبيرة من خريجي الجامعات إلى دعاة، كما حولت الدولة وخطابها السياسي إلى ما يشبه الدولة الدعوية، وكأنها ليست دولة مؤسسات، ولا دولة محورية في إقليمها وعلى مستوى العالم.