الأضداد الشرفاء يحتكمون لأقانيم وقيم الخلاف والحوار... لا يترحلون، لا يترجلون خارج ساحة الصراع النزيهة التي تكتنف في مطاويها المشروطية الأخلاقية النبيلة... ساحة الحوار كغيرها من ساحات الكر والفر الذي يحدث في المبارزات البشرية عبر أمداء الكون والتاريخ، إن هي مبارزات مادية حسية، وإن هي مبارزات لغوية معرفية، وإن سواهما، ساحة الحوار تظل ساحة شريفة ما لم ينجفل أيٍ من الأضداد خارج مواثيق الشرف التي يتحوكم إليها عادة في مفارز الحق والحقيقة ما بين الأضداد أطراف الحوار، هكذا تعارفت الثقافات وتعرفت على معنى الحقيقة والصوابية ومن يعتبر المتماهي فيها، ذلك يكون من خلال أدراع الأضداد ببراهينهم ودلائلهم التي تنتهي على شكل مبارزات علمية أو فكرية أو أدبية، وقد تسمى مناظرات أو حوارات، وسوق عكاظ الجاهلي شهد شيئاً من ذلك. في مشهد وساحة الحرب الحقيقية عند الغابرين هناك مكان للشرف ما بين الأضداد، وإن عدّوا الحرب خدعة وحيلة إلا أنهم يترفعون عن الدخول في الغدر والاختيان في سبيل النصر لتواطئهم على شروط وشرف الحرب، ولإيمانهم أن النصر الذي يعبر من على قنطرة الغدر والخيانة هزيمة ونصر موشوم عند المراقب/ عند التاريخ. أحكي في صراع الأضداد بين بني جلدتنا، الذي تجاوز مرحلة المعقولية والمنطق والشيم المعرفية، تجاوز الأضداد مرحلة الحوار حتى في حده الأدنى، ولو انتهى الحوار لمرحلة المناظرة لتفهمنا وتقبلنا ولو نسبياً (المناظرة هي ما يمارس كثيراً تحت وهم ووسم الحوار، علماً بأنه لا علاقة لها بالحوار عملياً، وإنما هي مسايفة الكل فيها يقاتل انتصاراً لرأيه وتهديماً لرأي غريمه)، لو تحول الحوار عندنا لمناظرة لكانت المشكلة على الأدنى ثقافية فحسب ولم تتوعك أخلاقياً. التوعك والحُمّى الأخلاقية التي تدار فيها الحوارات عندنا تكمن ، إذ «الاستعداء/ التحريش» التي صنعتها الذهنية الأبوية السلطوية الشمولية التي بدورها تتدخل في مفاصل الوعي كافة، تتكشف صور الاستعداء والتحريش في ثقافتنا، كإعلان غير محكي عن العجز البرهاني... كحال من الطغيان الفكري التي بدورها تدفع فئة نحو التحريش واستعداء سلطة الدولة، أو سلطة الرأي العام أوكليهما. الليبرالي (نموذجاً) ليس مبرءاً من رذيلة التحريش والاستعداء السلطوي، لكنني لست أقف عند الليبرالي، فهو غالباً تحت مطارق التخوين والسطو الاجتماعي والديني الذي لا يرقب في الليبرالي شيئاً، إذ الليبرالي في محل الدفاع لا المواجهة، ولأسباب أخرى ليس أقلها شعور الليبرالي بالغربة الاجتماعية والثقافية والضعة، إذن تكمن مشكلة «الاستعداء/ التحريش» في الجانب الآخر الإسلامي، الذي لا يألو أن يهرع سريعاً عند قعقعة وفيح أي حوار تجاه الاستعداء الذي يتمظهر أحياناً على شكل «تخوين/ صهينة»، الإسلامي يرى أن الآخر (الليبرالي) لا يستحق أن يصنف في صف المحاور أو النظير والند، وإنما مكانه الطبيعي، بحسب ذرائعية الإسلامي، خارج حدود الوعي الاجتماعي الديني «طارئ اجتماعياً وفكرياً»، كما هو يرى الليبرالي نزعة ورقعة طارئة على النسيج وليست منه، بمعنى أن «الإسلامي» يعتبر غيره «الليبرالي» أبعد من أن يتعاطى معه بلغة الحوار التي تفترض «سعة البطانة»، تلك النظرة الإزرائية للآخر دفعت المحاور الديني لممارسة «التحريش/ الاستعداء» ضد المختلف والعدو (بنو ليبرال)، بحسب الديني طبعاً الذي يعتبر ما سواه غير سوي دينياً، وحيث الديني صنع من ذاته حارساً للمحمية الدينية، فهو يسوغ لذاته الحرب على المختلف تحت مبرر «الاحتساب والحسبة»، مسمياً تحريشه واستعداءه بمسمى شرعي غيوري، وهو مسمى مقارب وتمويهي لطيف المجتمع الذي لا يمكنه استكناه المفارقة ما بين الاحتساب المقدس والاستعداء المدلس، ولهيمنة الخطاب الديني الحركي على عامة الوعي، وقدرته على إدارة ذهنية المؤمنين التقليديين تمكن من دفع الوعي نحو نبذ المخالف، لمرحلة تحويل المخالف إلى متآمر على بيضة الدين ليس غير ذلك، لتكون المحصلة أن هذا الآخر لا يندرج ضمن المخالف التقليدي الذي يشرع معه الحوار وأنه مستباح الجناب. «الحصاد»: ليس دفاعاً عن الليبراليين لكنني طرحتهم لحال المثال، إذ هم الأقرب أن يكونوا مثال المخالف على نطع المستعدى عليه من المستعدي المتمثل في الديني الحركي... لو قلبت ما بينهما في التمثيل والأدوار في المباحثة لما اتسق السياق/ لن يكون الآخر المستعدى عليه في بيداء ثقافتنا كمن قال الله فيهم (وجادلهم بالتي هي أحسن)، لكن هل تغني الآيات البينات من تسخن برمضاء هجير الأيديولوجيا. لا بديل للحوار سوى الحوار والحوار، وما عدا ذلك فإمعان في التجهيل والتغييب والكراهية المتبادلة التي تطال القصي قبل الأدنى... الاستعداء وإن يقلم الأوراق فإنه يجذر الجذور ويوزع منابتها، كما هو يغور عجز المستعدي. التمويه على الوعي بإدغام ثقافة الاستعداء في فضيلة «الاحتساب» تسليع للإمبريالية الفكرية وتبخيس للمفاهيم الدينية المقدسة. الراسخون ثقة بممتلكاتهم المعرفية لا يرتكسون عن النزال الحججي نحو الانسحاب المتقنع بالاحتساب المحتجب في طبقات «التحريش/ الاستعداء»... ليس معنى حكيي أن الليبراليين يكتسون الطهر ويتلبسون العقلانية والموضوعية، أو أنهم يتورعون ويرقبون في الآخر الورع والتقوى، فهم بعض من ثقافتنا التي تصدر عن بئر واحدة، وهكذا ثقافة البيد. * كاتب سعودي. [email protected] @ abdlahneghemshy