عقد المدير السابق للأمن العام في لبنان اللواء المتقاعد جميل السيد مؤتمراً صحافياً ناقش فيه ملابسات اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري ودخوله وآخرين في دائرة الاتهام، استناداً الى أقوال شهود زور. وهنا يكون من حق اللواء جميل السيد أن يدافع عن وجهة نظره وأن يفنّد الاتهامات الموجهة اليه والى رفاقه وأن يجادل في صلاحيات المحكمة الدولية وأن يطعن في صدقية بعض خصومه السياسيين على الساحة اللبنانية. ولكن الأمر الذي أثار دهشة الكثيرين هو أن اللواء عرّج على حديث إقليمي أوسع بكثير من الدائرة اللبنانية ليتحدث عن تنسيق مصري أردني إسرائيلي لتحريك الصراع الطائفي في لبنان، بل زاد على ذلك بأن أشار إلى اسم ديبلوماسي في السفارة المصرية في بيروت متهماً إياه بإجراء اتصالات متعددة مع شخصيات لبنانية مختلفة وأن في تحركاته تحريضاً على الفتنة وإثارة للنزعات الطائفية، وهو الأمر الذي أدى إلى ردود فعل في القاهرة وعواصم عربية أخرى لأنه يبدو خارج السياق كما أن فيه تأكيداً لدور المؤثرات الإقليمية على الواقع اللبناني وهو أمر لا ننكره. يجب أن أعترف بداية بأنني شعرت بشيء من التعاطف مع اللواء السيد، فلو كان مظلوماً بالفعل فقد دفع هو ورفاقه ثمناً فادحاً لاشتباهٍ خاطئ، وقد ناقشت اتهامه لمصر من خلال الفضائية التي سألتني عن مضمون مؤتمره الصحافي وذلك لكي أوضح أن مصر بعيدة من هذا الاتهام لأسباب منطقية عدة ربما يكون أهمها انصراف مصر الى مشكلاتها الداخلية بحيث لم تعد لها شواغل إقليمية باستثناء القضية الفلسطينية التي تمثل اهتماماً مصرياً تاريخياً كجزء من الرفض العربي لسياسات إسرائيل التوسعية والاستيطانية. والآن دعنا نبحث في الأمر بشيء من التفصيل من خلال النقاط الآتية: أولاً: إن العلاقات المصرية اللبنانية علاقات قديمة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ منذ العصر الفرعوني في مصر ثم الفينيقي في الشام وتُتوجها رموز حديثة ليس أولها ولا آخرها أسماء مثل جرجي زيدان ومي زيادة وخليل مطران، وعندما شدت فيروز برائعتها «يا جارة الوادي» إنما كان صوتها الملائكي يردد حالة العشق التي انتابت أمير الشعراء احمد شوقي ومن بعده محمد عبدالوهاب وأم كلثوم تجاه جبل لبنان وثقافة شعبه الرفيعة. والملاحظ أن دور أبناء الشام في الريادة الثقافية المصرية دور أساسي تتعدد مصادره وتتابع مراحله ولكن صوت لبنان يظل يصدح في محيطه العربي فيطرب له كل الناطقين بالضاد. والغريب أن العلاقات الثقافية بين مصر ولبنان هي علاقات تكاملية وليست تنافسية، إذ إنه عندما نهشت الحرب الأهلية أوصال الشعب اللبناني وحاولت تمزيق أحشاء ذلك البلد الجميل، فإن الحركة الثقافية المصرية قد تأثرت سلباً وتراجعت معدلات النشر والأداء الفني بسبب الترابط الوثيق والارتباط العضوي بين البلدين الشقيقين. وإذا كنَّا نعترف بتأثير التاريخ والجغرافيا العميقين في العلاقات السورية - اللبنانية ونراها حقيقة حضارية وقومية، إلا أننا نؤكد على الجانب الآخر متانة القاعدة التي تقف عليها العلاقات المصرية - اللبنانية كجزء من علاقات مصر بالشام الكبير، ولذلك فإننا نسلم بخصوصية العلاقات السورية - اللبنانية في الوقت الذي نؤكد فيه أيضاً فرادة العلاقات المصرية - اللبنانية. ثانياً: ذكرتني اتهامات اللواء جميل السيد في مؤتمره الصحافي للسفارة المصرية في بيروت بالعصر الناصري عندما كان سفير مصر عبدالحميد غالب يملك معظم مفاتيح القرار السياسي على الساحة اللبنانية. ولا يزال جيلي يتذكر أن السياسي اللبناني الراحل حميد فرنجية كان مرشحاً قريباً من القاهرة لدخول قصر بعبدا، ولكن عندما غيرت القاهرة رأيها وقدمت وزير التربية اللبناني حينذاك شارل حلو لسدة الرئاسة كان لها ما أرادت، أما اليوم يا سيد جميل فقد جرت مياه كثيرة وتبدلت الأحوال وتغيرت الظروف ولم تعد مصر معنية بالعبث في داخل لبنان على رغم حرصها الشديد على أمنه القومي وسلامته الإقليمية وتماسكه الطائفي، لذلك فإن اتهام السفارة المصرية في بيروت يوحي لي كما لو أن عبدالحميد غالب رحمه الله قد عاد إلى الحياة أو أن عبدالناصر قد بُعث من جديد! وأنت تعلم يا سيدي الجنرال أن الموتى لا يجرى استنساخهم. وأسجل هنا حقيقة يذكرها الجميع وهي أن عبدالناصر وفي عز حضوره القومي وتأثيره الشديد في المنطقة ومع قيام الجمهورية العربية المتحدة التي ضمت سورية ومصر، إلا أنه كان يؤكد دائماً خصوصية لبنان ويضع حدوداً فاصلة للتدخل في شؤونه. ثالثاً: عندما عصفت الحرب الأهلية بذلك البلد الثري ثقافياً العريق حضارياً وتكاثرت القوى المتناحرة للصدام على أرضه حتى بدت الأوضاع فيه محصلة لكل أزمات الشرق الأوسط ومشكلات العرب، يومها قال رئيس مصر أنور السادات قولته الشهيرة: «ارفعوا أيديكم عن لبنان»، وعلى رغم الارتباط بين الاجتياح الإسرائيلي للبنان في جانب وردود فعل اتفاقيات كمب ديفيد في جانب آخر، إلا أن الحرص المصري ظل يؤمن بأهمية تعافي لبنان وضرورة خروجه من دائرة الخطر. وأنا أظن هنا صادقاً أن النموذج اللبناني يؤرق إسرائيل بالدرجة الأولى لأنه يقدم نموذجاً للتعايش المشترك الذي لا تستطيع إسرائيل تحقيقه بسبب سياستها التوسعية وأساليبها العدوانية وأهدافها الاستيطانية. إن لبنان التعايش المشترك هو النموذج الأرقى عربياً وشرق أوسطياً كما أنه منارة متألقة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط الذي نعتبره بحيرة الحضارات القديمة. رابعاً: إن العلاقات السورية - اللبنانية محكومة بإطار شديد الحساسية لأنه يستند إلى مفهوم الأمن القومي وارتباط قضايا الأرض والمياه وآثار الاحتلال الإسرائيلي في البلدين وأنا ممن يتحمسون لتلك العلاقة القائمة على الندية والرغبة المشتركة والتاريخ الواحد، وما زلت أتذكر علامات الدهشة على وجه رئيس وزراء الهند السابق راجيف غاندي وهو يتحدث في القاهرة في نهاية ثمانينات القرن العشرين بعد زيارة خاطفة لسورية ولبنان حيث لم يكن قادراً على تصور أن المسافة بين بيروتودمشق لا تزيد كثيراً عن مئة كيلومتر فقط! وأنا شخصياً لا أستطيع التفريق أحياناً بين اللهجتين السورية واللبنانية، خصوصاً أنني من المؤمنين بالوحدة الجغرافية للشام الكبير والتجانس الواضح بين دوله كجزءٍ تكتمل به دول الخليج وشبه الجزيرة ووادي النيل والشمال العربي الأفريقي في إطار أمة عربية واحدة. خامساً: إنني أدّعي أن جزءاً كبيراً من الملابسات التي جعلت اللواء السيد يوجه اتهامه للقاهرة إنما هي انطلاقه من فهم لحْظي وقراءة مرحلية للعلاقة الحالية بين مصر وسورية والتي تمر بفترة روتينية من الفتور الذي لا تمتد جذوره إلى طبيعة العلاقة الوثيقة بين مصر وسورية اللتين عرفتا مرحلتي الاندماج الكامل في عصر إبراهيم بن محمد علي (1831 1840) وفي عصر عبدالناصر (19581961)، لذلك فإنه يجب ألا يتصور أحد أن لبنان يمكن أن يكون مسرحاً لمواجهة مصطنعة بين دمشقوالقاهرة لأن ما بينهما أقوى من ذلك كما أن حرصهما المشترك على سلامة لبنان وسيادته أمر معروف للكافة، وأضيف إلى ذلك أنني أتوقع أن تتجه العلاقات المصرية - السورية إلى وضعها الطبيعي في أقرب وقت لأنهما ركيزتان كبيرتان للعمل العربي المشترك وتلح عليهما تحديات واحدة وأطماع متقاربة واستهداف لم يتوقف عبر التاريخ. إن مصر تنظر إلى لبنان الشقيق باعتباره الكيان العربي المزدهر وأحد جسور الحضارة العربية مع الغرب الحديث وتعتز بكل طوائفه بلا استثناء وهي على اتصال سياسي بها جميعاً بل ربما بما فيها «حزب الله» أيضاً، إذ إن أمن لبنان وسلامته وازدهاره هي قضية عربية في المقام الأول ولا يكون قومياً من يعبث بذلك الكيان الرائع، إذ يكفيه أن إسرائيل تشعر بالغيرة والحقد الشديدين من ذلك النموذج السياسي وتضعه في مقدم أهدافها العدوانية. يا سيدي الجنرال إن المشكلات الداخلية يجب ألا تنعكس بهذه الصورة على الأوضاع الإقليمية، خصوصاً أنك تعلم بحكم تاريخك العسكري والأمني أن الذي يستهدف لبنان بالدرجة الأولى هو الدولة العبرية ولا أحد غيرها! * كاتب مصري