وُصِف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بأنه عقد مكرّس بامتياز للتقنية الرقمية، استناداً الى التسارع المذهل لمسار ثورة المعلوماتية والاتصالات فيه. لننس قليلاً أنه كان أيضاً عقداً للبيولوجيا، خصوصاً الجينات وعلومها، فذلك شأن يحتاج الى نقاش أوسع. بالعودة الى التقنية الرقمية، توصف هذه التكنولوجيا بأنها «ثورية» و «جذرية»، بمعنى أنها غيّرت كلياً مسارات التقنيات، وأن هذا التغيير شمل أنواع التكنولوجيا كافة. مثلاً، صار الكومبيوتر هو المختبر، وذلك ما لم يحدث قبلاً في أي مسار للتقنية، وكذلك فإن معظم العلوم تستخدم هذا الكومبيوتر - المختبر في تسريع وتيرة إنجازاتها. ما شأن الفلسفة بهذا الأمر كله؟ لماذا والتر بنجامين؟ الحق أنه في القلب من التقنية الرقمية، هناك ميزة خاصة تلعب دوراً أساسياً في إعطاء ثورة المعلوماتية والاتصالات ملامحها، هي القدرة على إعادة انتاج النصوص كافة بصورة مؤتمتة. استطاعت المطبعة ان تعيد انتاج النصوص المكتوبة (ثم الصور). أعطت آلات التسجيل وأسطوانات الفينيل والفيديو، القدرة على إعادة إنتاج نصوص الصوت والصورة. بقول وجيز، إن القدرة على الانتاج المؤتمت للمحتوى (بأصنافه كافة) تقف في القلب من عمل الكومبيوتر. واستنتاجاً، فإن القدرة على إعادة إنتاج المحتوى آلياً أحدثت ثورة في تقنيات إعادة انتاج المحتوى، ما مهّد لظهور تفكير جديد في ما تحتويه النصوص، بمعنى ظهور تفكير جديد في العلوم والتقنيات التي تستخدم الكومبيوتر، وكذلك بروز نظرة جديدة الى الانسان نفسه وعلاقته بنفسه والآخر والكون. هنا يجيء بنجامين، الذي أمعن التفكير في التطوّر الذي تحدثه التقنيات في التفكير، خصوصاً التقنيات التي تتولى إعادة إنتاج المحتوى آلياً. لخّص هذا الأمر بكثافة في كتابه الذائع الصيت: «الفن في زمن الإنتاج الميكانيكي» The Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction، الذي استعمل فيه الفن بمعنى واسع، بحيث يتطابق مع تسمية المحتوى في التقنية الرقمية. لم يكن بنجامين وحيداً في الاشتغال فلسفياً على التقنيات الحديثة. إذ برز مثل هذا الانشغال عند فلاسفة القرن الماضي، خصوصاً مارتن هيدغر وماكس فيبر وتيودور أدورنو وجاك دريدا وبول فيليريو وجان بودريار وغيرهم. يبقى بنجامين مثالاً بارزاً، إضافة الى كونه فكّر في ذلك المنحى مبكراً، كي لا نقول أولاً. وفي أواخر أيلول (سبتمبر) 1940 قضى الفيلسوف الألماني والتر بنجامين منتحراً، في قرية اسبانية صغيرة تدعى «بورت-بو» على الحدود مع فرنسا. اختار طوعاً الموت، بعد أن عاينه في أوروبا المنغمسة في حربين كونيتين. واذا كان في زمنه مغموراً (بواقع الحرب والمنفى)، فإنه اعتُبِر لاحقاً من أبرز المفكرين الألمان، وإحدى مآثره أنه اهتم بمسألة التقنية والأشكال الفنية الجديدة من التعبير في زمن الإنتاج الميكانيكي الموسع، وتأثيرها في الوعي وفي ادراك الذات والعالم. ينتمي بنجامين (1892-1940) إلى جيل أثّرت فيه عبثية الحرب العالمية الأولى. وراقب القفزات السياسية والاجتماعية والثقافية المميّزة لأوروبا في عشرينات القرن العشرين وثلاثيناته، كما شهد صعود الخطر النازي وانتصار هتلر. في ما يأتي مجموعة من المقالات عن هذا الفيلسوف، الذي يقتضي القول أيضاً إن ميله الى إيديولوجيا يسارية معيّنة، لم يمنعه من إدراك أهمية عناصر أساسية (مثل الدين) في صنع كينونة الإنسان. وهذا أمر مهم في مجمل تيار ما بعد الحداثة، لكنه يحتاج الى نقاش منفصل. وتتضمن النصوص التالية عرضاً موجزاً لفلسفة بنجامين وعلاقتها مع التقنية الرقمية، إضافة الى مقتطفات من كتابه «الفن في زمن الإنتاج الميكانيكي».