مرّت أمس، الرابع والعشرين من الشهر الجاري الذكرى السابعة لرحيل إدوارد سعيد (1936- 2003). وهو يستحق أن يتذكر على الدوام، بمناسبة وبلا مناسبة، لأسباب عديدة منها أنه ما زال مؤثراً بقوة في الثقافة والمعرفة الإنسانيتين، وكذلك في نظرية الأدب وعلوم الخطاب وفي الفكر السياسي الذي يشيح عما يسمى سياسات الهوية التي تصر على الفصل القاطع بين هويات البشر. وهي تنكر أيضاً المشترك الإنساني، ولا تؤمن بتهجين الثقافات، مستندة إلى رؤية عرقية سعى إدوارد إلى تفكيكها وكشف التواطؤ الذي ربطها مع الإمبريالية الغربية والرغبة في الامتداد والتوسع والهيمنة، لا في كتبه الأساسية فقط، ك «الإستشراق» و «الثقافة والإمبريالية» اللذين حملا شهرته إلى جهات الأرض الأربع، بل في معظم ما كتب وحاضر وأدلى به من أحاديث للصحافة والمجلات المتخصصة، وكذلك لشبكات التلفزة والإذاعة. ونظراً الى مركزية هذه الحوارات في عمل إدوارد سعيد فقد صدر عدد من الكتب التي تجمعها، إضافة إلى حوارات مطولة مستقلة أجريت معه. ولا بد لمن قرأ تلك الحوارات، التي ترجم منها إلى العربية، على ما أعلم، كتابان أحدهما ذلك الحوار الإذاعي المطول الذي أجراه الكاتب والمذيع الأرمني الأميركي ديفيد بارساميان في عنوان «القلم والسيف»، وكتاب آخر يجمع عدداً من الحوارات المطولة في عنوان «السلطة والسياسة والثقافة». وليس هذان الكتابان وحدهما هما ما يجمع ما تفوه به إدوارد سعيد شفاهة، بل هما كما نقول غيض من فيض، فقد صدرت بالإنكليزية حوالى خمسة كتب من هذه الحوارات، وما زال هناك عدد كبير من الحوارات لم يتم جمعه بعد. اعتمد إدوارد سعيد خلال مسيرته الثقافية والمعرفية صيغة الحوار ليصرح بما لم يتمكن من قوله بوضوح وسلاسة في الكتابة، وما حالت دون وصوله إلى القارئ الكتابة المتخصصة العميقة المثقلة بالهوامش وعشرات أسماء المؤلفين ومئات الكتب التي رجع إليها المفكر والناقد البارز في كتبه ودراساته الأساسية. وقد كان حضور بديهته وثراء معرفته سبباً في جعل تلك الحوارات تكشف برهافة بالغة عن عمق المشروع الفكري والنقدي الذي اضطلع به إدوارد سعيد. في حوار أجري معه عام 1986، وكنت ترجمته ونشرته في موضعين من كتبي، في «النقد والمجتمع» و «إدوارد سعيد: دراسة وترجمات»، يقول إدوارد: «إن خلفية حياتي هي سلسلة من الإنزياحات وعمليات النفي التي لا يمكن استردادها. لقد كان الإحساس بالتواجد بين الثقافات قوياً جداً جداً بالنسبة إلي، وأستطيع القول إن هذا هو النهر الوحيد القوي الذي يعبر حياتي: الحقيقة التي مفادها أنني دائماً داخل الأشياء وخارجها، ولم أكن يوماً وبحق جزءاً من شيء لفترة زمنية طويلة. لقد درست الأدب لأنني كنت مهتماً به دائماً، ولأنه بدا لي أن الأشياء الأخرى التي تحف بالأدب - الفلسفة، والموسيقى، والتاريخ، والعلوم السياسية، وعلم الاجتماع - تمكن المرء من الاهتمام بعددٍ من الأنشطة الإنسانية الأخرى. كان هذا الاختيار جيداً بالنسبة الي ولم أندم عليه للحظةٍ واحدة في حياتي. أما البديل فقد كان أن أصبح رجل أعمال، وهذه هي الخلفية العملية لعائلتي. لكن هذا البديل لم يكن حقيقياً بالنسبة الي يوماً من الأيام بسبب الخلفية السياسية والاجتماعية للتجارة والعمل في الشرق الأوسط التي كانت مرتبطةً بالطبقة الحاكمة التي كنت أنا خارجها». هذا التصريح يكشف أهمية الباعث الذي حرك عمل إدوارد سعيد طوال حياته، ودفعه أن يكون ما صار إليه خلال أربعة عقود من الزمن قضاها مطوفاً بين المعارف النظرية والعملية المختلفة؛ بين الكتابة النقدية المتخصصة والمقالة السياسية التي تلاحق الحدث اليومي وتعلق عليه مثل أي صحافي عامل في الميدان؛ بين العالم في مجال الأدب والثقافة والناشط السياسي الذي يدافع عن قضية. ولعل ذلك هو ما يجعل عمله الثقافي والفكري، ونشاطه السياسي، مثار جدل حتى هذه اللحظة، فظل يلهم العديد من الباحثين ليقرأوا موضعه في ثقافة العالم، ورؤيته لتحليل الخطاب، وتصوره للعلاقة بين المعرفة والخطاب والسلطة، ودعوته، التي لم تفتر يوماً، لقول الحقيقة للسلطة من دون أن يكون المثقف في يوم من الأيام أداة أو متواطئاً مع هذه السلطة، فظل، بتعبيره هو، «مثقفاً هاوياً» لا خبيراً يبيع خبرته لمن يدفع أكثر من الشركات أو الجهات السياسية ذات الغرض. ونحن نعثر على هذه الرؤى جميعاً في كتب حواراته التي أجراها صحافيون وباحثون وتلامذة لإدوارد، وكذلك مثقفون كبار من حجم الروائي والكاتب الباكستاني البريطاني البارز طارق علي. فلنترجم هذه الكتب في ذكرى رحيله السابعة، ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر.