عندما يقول سعد الحريري أن لا مشروع لديه غير مشروع الدولة، يكون قد أعلن أنه لا يمتلك، في واقع الحال، أي مشروع. ليس لأن ثمة فارق بين الدولة الغائبة ومشروعها الحاضر، بل لأنهما، الدولة والمشروع، لم ينجز صوغ أي منهما في بلادنا بعد. ما من داعٍ هنا لاستحضار تعريفات الدولة الحديثة والنواة الأساسية للكيان السياسي، أو المواطن، فهذا مسار لم تسره الدول العربية التي ما زالت تقيم في برزخ ما بين أصناف الدول التي مرت على هذه المنطقة، من دولة العصبية الغالبة إلى تحالف قوى الاستبداد والطفيلية الريعية التي أسبغت على ذاتها اسم «الدولة الوطنية» بذريعة تحررها من سيطرة الاستعمار. والحال أن رئيس الوزراء اللبناني بحديثه عن مشروع الدولة، يُحيي ذاكرة النماذج الدولتية التي مرت على لبنان منذ استقلاله، من «دولة الامتيازات الطائفية» التي كانت للموارنة فيها اليد الطولى قبل الحرب الأهلية، إلى دولة «البقرة الحلوب» (بحسب تعبير الرئيس الأسبق الياس الهرواي) حيث تقاسمت الهيمنة «الترويكا» الطائفية والوصاية الخارجية، وصولاً إلى الدولة المعلقة راهناً والتي لا يُعرف فيها المؤيد مِن المُعارض. بل أن فكرة الوطن ذاتها ما زالت غير واضحة في أذهان السياسيين و «الجماهير» حيث يختلط معنى الانتماء الوطني بالرضوخ لتسليم السلطة إلى «نخبة» (أو طغمة) تحكم خارج الأطر الرقابية المعروفة في عالم اليوم. وغني بالدلالات ما حصل في مصر، على سبيل المثال، عندما استبدل شعار «الشرطة في خدمة الشعب» بشعار «الشرطة والشعب في خدمة الوطن»، ما أشار إلى إطلاق يد أجهزة الأمن لحماية مصالح «الوطن» الذي صار يرمز إلى كيان منفصل ومغترب عن الشعب، أي القوى الممسكة بزمام السلطة المباشرة. المشاريع الحية في هذه المنطقة من العالم هي مشاريع هدم الدولة. فهذه تصر على تهميش شرائح باتت تلح في الحصول على حقوقها في التمثيل وفي التعبير عن ذاتها. وفاقم إطار الدولة العربية الراهنة التناقضات بين الفرد والجماعة لمصلحة الأخيرة على نحو ضخّم الوعي الجمعي، الديني والطائفي والقبلي، على حساب الوعي الفردي، أساس الدولة الحديثة. فانطلقت الجماعات تطالب بحماية خصوصياتها الحقيقية أو المُتخيّلة، وهذا هو الطريق الأسرع للاصطدام بخصوصيات الآخرين وفتح باب الصراعات المذهبية والطائفية على مصراعيه. بالعودة إلى مثال الحريري ومشروعه للدولة في لبنان، لقائل أن يقول إن الكلام المجرد في الحالة اللبنانية هو اقصر السبل إلى التساؤل عن الإنجازات. وإذا رأى الحريري في نفسه صاحب مشروع الدولة، عليه أن يفسر الاخفاقات الهائلة التي مني هذا المشروع بها منذ بداية المرحلة التي دشنها اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. الهروب إلى حجج «الوصاية» والأمر الواقع وسلطة الطوائف، غير ذي مغزى. فهذه ستبقى قائمة ما بقي لبنان. الأجدى البحث عن العوامل التي تجعل مشروع الدولة المذكور مشروع فئة ترى فيه الفئات الشريكة في الوطن مصدر تهديد لنصابها السياسي (والأمني). وما يجري في لبنان اليوم يظهر بجلاء أن «الدولة» مشروع فئوي في أحسن الأحوال ونذير حرب أهلية لا مفر منها إلا بالتخلي عن فكرة الدولة بشكلها الحالي. من نافل القول إن البديل عن الدولة الفئوية لا يكون بترك الساحة ل «حفلات الجنون» بل لمشروع أكثر تقدماً يحتضن كل المواطنين ويقدم لهم ما ينتظرون من مساواة وحريات. هل نقترب من هذه الطوبى؟