«شيعت أمس أوديت أديب سالم (78 سنة)، وأقيمت الصلاة لراحة نفسها في حديقة جبران في وسط بيروت، قبل أن ينقل الجثمان ليوارى الثرى في مدافن العائلة في منطقة رأس النبع». يمكن للخبر أن ينتهي هنا، وأن تكون النقطة في آخر الجملة السابقة، هي نفسها نقطة النهاية لحياة انسانية قضت السبت الماضي دهسا بسيارة مسرعة، وهي تجتاز الشارع المؤدي الى خيمة اعتصام «أهالي المعتقلين في السجون السورية» و«أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان» في حديقة جبران وسط بيروت. غير أن كل ما يدور في الحديقة حيث خيمة الأمهات، يؤكد أن حياة أوديت لا تنتهي بانتهاء الخبر، وأنه قبل وضع النقطة في نهاية الجملة، ثمة كلام كثير ليحكى عن قضية عمرها من عمر حربنا الأهلية، وما زالت تنتظر من يضع عليها نقطة النهاية. فمن هي أوديت سالم؟ في 17 أيلول (سبتمبر) 1985، أعدت أوديت سفرة الغداء كاملة في منزلها الواقع في ساقية الجنزير. كل شيء كان جاهزاً، إلا السلطة كان ينقصها بعض الزيت. لم تضعه عليها لتبقى نضرة، بانتظار وصول ابنها ريشار (22 سنة) وابنتها ماري كريستين (19 سنة) من عملهما. عقارب الساعة كانت تشير حينها الى الواحدة والنصف ظهراً، غير أن الأخوين تأخرا لبضع دقائق فانتظرتهما على قلق، ثم طالت الدقائق وصارت شهوراً وسنوات، وبقيت الأم في الانتظار. مات الزوج لاحقاً، تاركاً حمل مصير الولدين الثقيل على عاتق اوديت، فلم يعد لها في الدنيا كلها الا اخت، وصورة لولدين وقضية ثقيلة. حملت الصورة وسارت بين أمهات يعشن حرقة الفقدان نفسها، الى حديقة جبران المقابلة لمبنى مكتب الأممالمتحدة. هناك في 11 نيسان (ابريل) 2005، دقت الأمهات اسفيناً لقضيتهن، فارتفعت خيمة زينتها كل منهن بصورة مفقودها أو مفقوديها. ومنذ تلك اللحظة، تناوبن على الحضور الى الخيمة التي بقيت مشرعة على رغم العواصف التي هزت البلد في السنوات الأربع الماضية. وكانت أوديت بشهادة الجميع «أمنا جميعاً وناطورة الخيمة التي لا تغيب عن المكان». عند الثالثة الا دقائق قليلة عصر أمس، دخل نعش اوديت الى الحديقة محمولاً على الأكف. وفي الاستقبال كان أهلها: أمهات المخطوفين وقد اتشحن بالأسود وبسيل من الدموع لم ينقطع. نثرن عليها الورد والرز، وتمايلن بحرقة امام النعش المحمول على أكف رجال بملابس رسمية، ولوحن بمناديل بيض. صورة أوديت رفعت في استقبال نعشها، وبجانبها الصورة التي لم تركنها بعيداً من قلبها منذ 24 سنة. في الصورة ابنتها كريستين تتكىء برأسها على كتف اخيها ريشار ويبتسمان. وسط الحديقة زيّن بباقات ورد أبيض كثيرة، وأمامها تحولت طاولة مغطاة بالأبيض الى مذبح، ألقى من ورائه الكاهن الصلاة لراحة نفسها. بين النسوة في الصف الأول كثر محجبات. تفتح الواحدة منهن يديها فتقرأ الفاتحة عن روح الفقيدة، فيما ترسم البقية الصليب فوق الصدر. بكين كثيراً حتى خارت قواهن. الكاهن يناشدهن الصبر، غير ان البكاء هذا لن يخضع لضوابط الكاهن. البكاء على اوديت ليس بكاء على امرأة وضعت سيارة مسرعة حداً لحياتها، هو بكاء على ام فقدت ولدين معاً، فخسرت عالماً كان يمكن أن يكون جميلاً. بكاء كل منهن على أوديت أعاد كل منهن الى سنوات كثيرة مضت في الانتظار والبكاء. بعد الصلاة، افسح المجال امام محبي اوديت لوداعها. فتليت كلمات أبرزها للنائب غسان مخيبر ول «لجنة أهالي المخطوفين والمعتقلين في لبنان» و «مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب» و «حملة من حقنا أن نعرف» و «لجنة دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين سوليد»، ومن الحديقة حمل النعش إلى مدافن العائلة في رأس النبع على أن تقبل التعازي في خيمة الاعتصام اليوم الأربعاء وغداً الخميس وبعد غد الجمعة. أمس وضعت رسمياً النقطة الأخيرة لرحلة الأم التي حملت قضية غياب ريشار وكريستين 24 سنة، لترحل قبل أن تبصر حقيقة اختفائهما النور. رحلت اوديت سالم غير أن الأمهات في الحديقة تعهدن أمام نعشها أن «القضية لن تموت، وأوديت ستبقى بيننا»، وصرخت احداهن: «لا تخافي على القضية. الأمهات لن يمتن بعد الآن». وفي منزل ساقية الجنزير المقفل منذ غياب اوديت قبل أيام ملابس ريشار وكريستين مطوية كما كانت في اليوم الذي غادرا فيه البيت. رحلت «ناطورة الخيمة». بقيت رفيقاتها. يحملن مفاتيح الانتظار. يحدقن بعناد في عيني بلد برمته يخجل من النظر في عيونهن، لأنه لم يكشف بعد عن مصير قلوبهن المخطوفة.