مهمة المؤرخين تذكير الناس بما نسوه ولا جديد في ذلك، سوى أنك بقراءة تاريخنا يدهمك الشعور بأننا أخذنا على حين غرة، وكأن شيئاً ما باغتنا، مع أن الحكاية أننا مولعون بالتسويف والتأمل في فرج منتظر، وعند ما نكتشف أن خيالنا وأحلام عصافيرنا كانت سراباً، وأننا صحونا على غيرنا وقد كسب الجولة أثناء نومنا، فإن التصرف الطبيعي أن نتعلم الدرس كي لا نقع في الخطأ ذاته، طبعاً هذا التصرف الطبيعي، ولكننا لسنا صحبة مع الطبيعة، لذلك تجد أن أخطاءنا تتكرر، وللأسباب نفسها إلا ما ندر، فتتراكم ويتضخم سجلها، ولا يكون أمامنا سوى رمي مبرراتها على أي شيء إلا على تقصيرنا، وإن كان لا بأس من إشارة إلى هذا التقصير من بعيد وعلى خجل كي نبدو موضوعيين في تحليلنا، فهل لنا قبل أن نلوم غيرنا لأنه لم يقف عند حدود سلطته معنا بل تعداها إلى المعيار المزدوج من وجهة نظرنا، هل لنا قبل لومه أن ننظر إلينا أولاً وإلى طريقة تعاطينا مع كل شيء، بدءاً بالبيت، إلى الشارع، إلى العمل، إلى علاقاتنا الإنسانية بمستوياتها، إلى وسائل تحقيق طموحاتنا، سنجد عندها أن مفهومنا للأخلاق والسلوك (وهو الأساس) مزدوج ومتناقض، بحسب الموقف والمصلحة، ثم لا نرى في ازدواجيتنا غضاضة، ولكن نراها عند تقييمنا للآخر. لماذا لا نتغير كما ينبغي أن نتغير؟ نتحمل المسؤولية صح، نقوم بأعمالنا صح، نعرف واجباتنا صح، نعيش صح، لماذا نستمر بأرواح محبطة ومنبطحة؟ لماذا أمورنا وأولوياتنا سلمها مقلوب؟ سلم نحمله بالعرض ونستغرب عدم المرور، التصورات في أي سيناريو تتأرجح عادة بين الممكن وغير الممكن، فلم تحولت سيناريوهاتنا إلى غير الممكن في غالبها؟ قد عرفنا أن الصراع التاريخي بين الإسلام والغرب لم يكن عقائدياً فقط، ولكن تاريخياً أيضاً لأن المسلمين لم يصلوا إلى أن يكونوا في القرنين الماضيين على الأقل أنداداً للغرب، وقيل إن السبب في الاستعمار الغربي الذي تسلط على بلادنا مخلفاً عند انسحابه حكاماً متسلطين، ليسوا - في معظمهم - مؤهلين لوظيفة الحكم، وشعوباً تعودت على الذل أو التمرد ضده، فلا وسط معتدلاً تعيشه، أو مجتمعاً يحترم حقوقها، بل رهينة لأهواء شخصية عودتها على الربط بين الظلم الذي تتعرض له في الداخل والسكوت عليه من الخارج، على أنه «ازدواجية التواطؤ» من الغرب في التعامل مع ملفنا، في تهمة مكرورة تريح شعوبنا لتخلي مسؤوليتهم من ما هم فيه، ناسين ومتناسين أن الغرب لا عليه منا ولكن من مصالحه، لا عليه من شؤوننا إلا إذا كانت ستدور عليه، كما أنه لم يجبرنا على فسادنا، على إهمالنا قوانينَنا، وعلى إهمال القائمين على تنفيذها، الغرب لم يقل لنا تشدقوا بمقولة النظافة من الإيمان وأسقطوها عند أول استعمال لمرفق عام، الغرب لم يتدخل في همجية تقديرنا قيمة الطابور، الغرب لم يكرس فواجع مطلقاتنا وإهدار حقوقهن وتمزق أطفالهن، الغرب لم يوجه الرجل العربي إلى أن يخرس ضميره الزوجي والأبوي بعد الزواج، الغرب لم يدعُ مجتمعنا المدني لكره التطور ولمنع مزيد من ساحات يتحرك فيها الإنسان بحريته باحترام رسمي وشعبي لهذه الحرية، الغرب لم يكلفنا باستمرار جهلنا الثقافي بكل ما حولنا، فلا نعرف ما يحويه الكتاب ولكن نعرف كيف نزين به بيوتنا، لا نحرص على استثمار التقنية ارتقاء للعلم والعقل ولكن نجتهد لتطويعها السيئ، فإذا قال الغرب إن إجراء انتخابات واحدة في أي بلد، لا تجعل هذا البلد ديموقراطياً، نزيد عليه فنقول إن ثقافة اقتنائنا عصارة أفكارهم لا تعني أننا تحضرنا، ولكن عشنا عالة على من تحضر على أمل أن نتحضر يوماً... على أمل!! [email protected]