حلّق صوت ريما خشيش المصيب الصائب والمتهادي المُحسن، مساء أول من أمس في مسرح المدينة في بيروت، ليُوَشوِش جمهوراً انتظر أسطوانة مجنونة فريدة، تهمس بمفردات وأفكار عصرية تشبه يومياتنا وانفعالاتنا واضطراباتنا وعشقنا ولهونا. ثلاث سنوات انتظر جمهور ريما خشيش التي حملت لواء تحديث الموشحات والطرب الأصيل، وتقديمه بلغة عصرية نابعة من تجربة أكاديمية واعية مشبّعة بالموهبة والرهافة، ليسمع أغاني صاغتها خشيش برفقة توأمها الموسيقي ربيع مروة، في أسطوانة يشي عنوانها «وشوشني» بشيء من المفاجأة والغرابة والدلع على حدّ سواء. وكانت المفاجأة أن أستاذة الموسيقى وصاحبة الأداء المتمكن الذي يجمع بين الإحساس العميق والوعي التقني، تخوض تجربة لا تقلّ شأناً عمّا خاضته مع إرث الموشحات وأغاني زكي ناصيف وصباح ووديع الصافي، بل هي «قفزة» ناضجة متحرّرة من عبء الماضي وعمالقته، من دون الابتعاد عن جوهرية هذا الماضي. ريما خشيش المعروفة باختيارها غير المألوف والصائب، بدءاً من الموسيقيين الى الآلات الى النصوص والألحان، أحسنت هذه المرة وربيع مروة في اختيار سيّدة الفن والشعر اللامعة إيتيل عدنان ليقتبسا من شعرها ويغنياه على مساحة جديدة من اللحن والتوزيع الموسيقي الذي يُغني نصوص الفنانة ويزيدها رهافة وشاعرية. فقد أتت أغاني «الشمس» و»عُمر الخيّام» و»أنا ناطرة» التي اقتبسها ربيع مروة من قصائد لإيتيل عدنان، كقطرات ندى أطربت الجمهور مع كثير من الليالي ومساحات مريحة بين الكلمة والنغم، لتعطي لكل من الصوت والآلات الموسيقية الأربع التي رافقت ريما خشيش في الحفلة (كلارينت، غيتار، كونترباص، إيقاعات) حقها وحريتها في الأداء وربما الارتجال. على أي حال فإن اسم إيتيل عدنان الشهيرة بفنها التشكيلي عالمياً، وحده، هو جرأة وقد يكون مغامرة، لكنها من أجمل المغامرات التي تخوضها ريما خشيش عادة. وهذه الأغاني هي جزء من مشروع عملت عليه خشيش منذ سنوات مع ربيع مروة، تكريماً للشاعرة والتشكيلية الكبيرة، وقدّماه ضمن حفلة في برلين. وهذه الأسطوانة التي أطلقتها خشيش أول من أمس، سجلت في كانون الثاني (يناير) الماضي في استديوات «ويسلورد» الهولندية، في غضون 3 أيام متواصلة في طريقة التسجيل الحيّ. لذلك استغرق العمل عليها وقتاً طويلاً ناهز الثلاث سنوات. خشيش التي تأسس مشروعها الغنائي على المزج بين العربي الكلاسيكي وأنماط موسيقية غربية، لم تتغيّر في هذه الأسطوانة ولم تنتقل الى أرض جديدة بل هي خاضت تجربة كانت متوقعة من متابعيها. وهي تجربة ناضجة فيها تجديد للصور الشعرية التي تغنيها وللغة الموسيقية والجملة اللحنية، لكنها لا تنفصل عن أسلوب ريما خشيش ومناخها الغنائي البديع وتلاوينها الصوتية الشديدة العذوبة والرقة. ففي أغان كتبها لها في الثمانينات المصري الراحل فؤاد عبدالمجيد (كلمات ولحناً) مثل «من بين ظبا» و»لاهٍ وخليّ البال» و»أتمنى» أوجدت صاحبة «يللي» جوّاً متهادياً يُذكّر بالمناخ الموسيقي المصري في ستينات القرن العشرين، لا سيما عبر المنعطفات والعِرب التي أطربتنا بها. أما أغانيها المشتركة مع ربيع مروّة مثل «إجاني اتصال» و «وشوشني» و «تعا بوس» و «ما فيك تعود» و «عندي إحساس» و «وين ما كان»، فقد زادها أداء خشيش المتميّز كالعادة بعيشه للحظة والموقف والصورة الشعرية، جمالية. وكلمات هذه الأغاني البسيطة والسهلة الحفظ (لحناً وكلمات) هي عميقة من حيث التركيبة والمعنى والأفكار والصور الشعرية، التي تحاكي حياتنا اليومية وتحوّلاتنا وعلاقاتنا العاطفية وأوضاعنا السياسية والاجتماعية والنفسية أيضاً، لذا نسمع مفردات تشبه حوارنا اليومي مثل قوّصني. هي أغانٍ تغوص في السهل لتتناول العميق وغير المحكي عادة. أغان نابعة من تجارب مصقولة موسيقياً وشعرياً وحياتياً. في أغنية «تعا بوس» مثلاً، نوتات كئيبة ساخرة مشبّعة بالحذر والخوف والترقب والاضطراب الذي نعيشه نتيجة الأوضاع الأمنية والسياسية، لكنها مجبولة بالهيام والعشق البسيطين. لكن على رغم كل هذا الرقي والجنون في أغاني ربيع مروّة، إلا أن ريما قد تكون أكثرت منها، ما أظهر نوعاً من المونوتون نظراً إلى شدّة تشابه الألحان أو لهويتها الموسيقية أو لأسلوب اللعب على الكلام الذي يعتمده مروّة في كلمات الأغاني. ولكن ريما خشيش في «وشوشني» انتقلت من علياء الموشحات والتراث وزكي ناصيف وصباح ووديع الصافي، الى لغة الشباب والعصر، من دون أن تقع في فن الاستهلاك وتكرار النصوص المغناة وأفكارها المبتذلة خصوصاً التي تتعلق بالعشق والحب. فقد أتت الأسطوانة بسيطة جميلة مجنونة ورومانسية تحمل السخرية والجدية، وتشبه ريما خشيش وجيلها وجيل الشباب الباحث عن صوت ولحن وكلمة تعبّر عن موضوعاته.