المدن العربية تعيش أحسن أيامها. تغطي الآفاق رافعات المباني قيد التشييد وتظهر عند المنعطفات مجمعات تجارية ضخمة تغص بكل ما يخطر على البال من سلع، فيما يكاد المشاة لا يجدون مواطئ لاقدامهم في شوارع تحتلها السيارات وتجتاحها. يضحي أصحاب الرؤى المستقبلية ببعض التفاصيل التي لا تجتمع مع ازدهار المدن، كما يرونه ومثاله نموذج ناطحات السحاب في مانهاتن. من التفاصيل تلك، التدمير الشامل للمواقع التراثية او تلك التي تمتّ بصلات إلى ذاكرة المكان وأهله وتاريخهم. توحش البيئة العمرانية الجديدة بمعنى خروجها عن كل قانون سواء كان جمالياً يتعلق بتناغم المشهد المديني أو اجتماعياً يخفف من تجاور الفقر والثراء الفاحشين مقدماً الخدمات اللازمة للفئات المحرومة، او قانونياً يرسم منظومة الحقوق والواجبات للسكان والسلطات (غير المنتخبة غالباً) التي تمثلهم وتدير شؤونهم اليومية. وليس من النادر أن يظهر توحش المدينة العربية بمظهر التباين في الانتماءات الطائفية والدينية لأهلها. ففي بلاد ما زالت ولاءات ما قبل الدولة ودونها تشكل أرضية الهويات، تصبح المدن ساحات مناسبة للاقتتال الطائفي، على غرار ما يجري في بغداد وغيرها من مدن التماس العراقية، ومن النوع الذي خبره اللبنانيون جيداً. فالمدينة بحكم تكوينها ووظائفها مضطرة الى أن تعيش في قدر من الانفتاح يتيح للراغبين في اختراقها، القيام بمهماتهم بسهولة تزيد كثيراً عن محاولة اختراق بيئات ريفية مغلقة تتمتع برقابة ذاتية على المقيمين فيها وحولها. وعلى رغم موجات الهجرة الكثيفة من العاصمة العراقية وحالات الفرز المذهبي التي عمت بغداد منذ أربعة أعوام على الأقل، ما زال في وسع الانتحاريين وأصحاب السيارات المفخّخة التحرك بسهولة نسبية صوب أهدافهم. كذا الحال كان في بيروت أعوام حروبها الأهلية. لكن مشكلة الاختراق الأمني الصريح تبقى أقل خطراً من انتفاء مفهوم المدينة ذاته في العالم العربي. يتعين هنا النظر إلى جملة من المشكلات المتداخلة. الأولى منها ذلك الفارق بين «أهل المدن» وبين «الآتين» اليها من الارياف والقاطنين فيها، وهو حديث يبرز بالتزامن مع كل اضطراب في حبل العلاقات بين السكان من الفئتين ونموذجه الأحدث ليلة الأحداث «التافهة» (بمنطوق المسؤولين عنها) في منطقة برج أبي حيدر البيروتية. ومن دون العودة الى التفاصيل البوليسية للاشتباكات بين «حزب الله» و «جمعية المشاريع الخيرية» (الأحباش)، يبدو السؤال عن «الأهل» و «الوافدين» في غير محله. فما يضع فئة من السكان في متن المكان وصدارته وما يترك فئة ثانية على الهامش، لا علاقة به بالانتماء المذهبي «الأصلي» للسكان. بل إن الانتماء المدني يتحدد بشرط غير متوافر عند أكثرية من اللبنانيين، من سكان المدن والارياف سواء بسواء. الشرط هذا هو التخلي عن الولاءات العصبية أو «الأهلية» والانضواء في نظام العلاقات (وبالتالي القيم) المدنية. عليه، يمكن الاعتقاد أن الكلام عن التصاق مسلحي «المشاريع» ببيئة بيروتية واجهت فئة مسلحة من خارجها، كلام فارغ. فالتمعن في المنابت الاجتماعية لمناصري الأحباش يضعهم في مراتب لا تقل بُعداً من المتن المدني عن نظرائهم في «حزب الله»، بغض النظر عن اسمي المذهبين اللذين ينتمي مؤيدو الجانبين اليهما. الاشتباك، إذاً، لم يكن بين أبناء العاصمة وبين وافدين اليها، بل كان بين فئتين من المهمشين والمقصيين عن نسيج العاصمة (سواء من الذين فرض التهميش والاقصاء عليهم أو ارتضوهما نمطاً للعيش والرزق). غني عن البيان أن النسيج المقصود لا يتألف من لون واحد او من خيط مفرد، بل من مجموعة الألوان والخيوط التي ارتضى ممثلوها النأي عن قيم العصبية لمصلحة الحياة المدنية بقيمها، وهي التي لم يكف زجالو «الثقافة اللبنانية» وقوالوها عن شتمها ووسمها بكل النعوت المشينة مدافعين، في المقابل، عن قيم القرية والريف التي لم يبح حَمَلتها سوى بمكنونات الكراهية لكل مختلف مغاير والانغلاق على الذات والدوران في دوائرها. الأغرب (وربما الأغبى) بين ما تلي من مقولات عن المساواة بين الفئتين المتناحرتين في بيروت، هو ما ذكره كاتب لبناني عن أصول مغربية ومصرية وبلقانية وعربية منذ زمن الفتوحات، لسكان بيروت من الطائفة السنية. ولم يجد كاتبنا سوى التذكير بمجيء أهل العاصمة الحالية من منابت ومضارب بعيدة وعلى امتداد قرون من الزمن، للقول إن ما من أحد بقادر على احتكار الأسبقية طالما أن الجميع وافدون وأن الضرر، إذا وقع، يصيب الجميع الذين يتشاركون في استخدام المرافق والمؤسسات العامة. وليس في وسع خيال محدود كهذا سوى الغرف من مخزون العصبية القبلية، في حين أن مجيء سكان بيروت من المغرب مع الحملات الفاطمية أو بعد سقوط الاندلس والفرار من محاكم التفتيش، أو كجنود بلقانيين «أرناؤوط» للسلطنة العثمانية، لا يجعلهم يحوزون الصفة المدنية إذا ظلوا متمسكين بولاءاتهم القبلية. وكثرة جمعيات العائلات البيروتية، ترادفت دائماً مع قلة فاعليتها السياسية والاجتماعية وبقائها محصورة في الجانب الأسري الضيق. علة ذلك ذوبان الولاءات العائلية في العاصمة اللبنانية. فالهوية الطائفية ليست ما يحدد الانتماء الى المدينة، خلافاً لما يعتقد الكاتب المذكور، بل اضمحلال هذه الهوية وما يدخل في بابها هو مفتاح المدينة. واحياء العصبية السنية ليس سوى نكوص إلى سوية غير مدنية يستعاد فيها «خطاب» آتٍ من خارج المدينة وزمنها. بيد أننا، من ناحية ثانية، شهود على ظاهرة عربية عامة في مدننا قوامها التحول إلى قرى كبيرة يتجاور فيها سكان لا يجمع بينهم سوى سهولة اللجوء إلى العنف، بذريعة حماية المقاومة أو الدفاع عن «الحارة» وشرف أهلها المروم.