بنى أحمد الهلالي قصيدته «رسالة إلى أفلاطون»، على التضاد، واستثمر الطباق في بناء القصيدة، وجعلها تتكئ على ثنائيات متصارعة، وما صراعها الذي نقرأه في القصيدة إلا نسق ظاهر لصراع مضمر أو خفي. ومفهوم الطباق هو «الجمع بين اللفظين الدالين على المعنيين المتضادين حقيقة أو تقديراً»، ومن مزاياه أنه «أسلوب جمالي مهم في توضيح المعاني وإبرازها، وإكسابها جلاء ورونقاً، لأن الأشياء تتميز بأضدادها، وتبرز قيمتها - مدحاً أو ذمّاً - بإيراد نقائضها». لقد أدرك الهلالي في أطروحته للدكتوراه «النور والظلام في الشعر السعودي» قيمة هذه المطابقة بين النور والظلام، فأنشأ مطلع القصيدة محمّلاً بهذه البنية المتضادة بين النور / الضوء والظلام / الحلك: يا حادي الضوء، ضوء الحالمين حلك / فاغفر إذا الليل أدنى في دمي أجلك». ولم يكتف ببيت واحد يحمّله بالتضاد بين النور والظلام، بل جاء الثاني مؤكّداً إلحاح هذه الفكرة على ذهن الشاعر، ودالّاً كذلك على أن مدار القصيدة بأسرها سيكون النور والظلام: حلمت حتّى ظننت الضوء مملكتي / فارتدّ حلمي حسيرًا والظلام ملك». ولم تغب ثنائية النور والظلام في البيت الرابع من القصيدة، فالضياء والحلك حاضران فيه، وفي البيت الخامس أيضاً، إذ جاء الظلام مقابلاً الهداية. أما البيت السابع: فما بلغت بها صبحاً وما شربت / ليلاك غير قذىً في مقلتيك سلك». فقد تقابل فيه لفظا «صبحاً، وليلاك»، وليلى كما جاء في لسان العرب: «ليلة ليلاء وليلى: طويلة شديدة صعبة، وقيل: هي أشدّ ليالي الشهر ظلمة، وبه سميت المرأة ليلى». ولئن نوّع الهلالي في حضور النور بأسماء وصفات ومتعلقات مختلفة ك«الضياء، الصبح السنا، برقت، لوامع»، فإنه كذلك وظّف أسماءً شتّى للظلام، مثل: (الليل، حلك، السود، غربت، دلك). إن هذا التنويع في أسماء النور والظلام وأوصافهما، وقد بسط إهابه على مساحة شاسعة من القصيدة، يعطي المتلقي بعضاً مفاتيح النص.. فما هذه المراوحة بين النور والظلام إلا ألفاظ نمّامة بأن أفلاطون ليس إلا رمزاً للعلم والمعرفة الحديثة. هذا عن التضاد بين قطبي النور والظلام، غير أن القصيدة برمّتها قائمة على التضاد، فلا يكاد يمر بيت إلا وتجد فيه الصورة متأرجحة بين اتجاهين، كهذا البيت على سبيل المثال: سل القصائد كم ثجّت سكاكرها / تغول ملحاً تربّى فيك وابتذلك. فالسكاكر تقابل الملح من حيث مفارقة الطّعم، كما أن «تربّى» الدالّة على الزيادة والنمو والحياة تأتي مقابلة ل«تغول» التي تدل على الموت. من يكون أفلاطون في القصيدة؟ في القصيدة دلالات مماطلة متمنّعة بعض الشيء على التعرّي للمتأمل، وخصوصاً أن أفلاطون عاش في زمن ضارب في القدم، وها نحن أولاء أمام الشاعر يتحدث عن ثقافة النوق رامزاً للثقافة التقليدية، أو المعارف القديمة، وأن هذه الثقافة يتضاءل ظلالها كلما برقت لوامع الوعي: النوق ترحل من أفهامنا زمراً / وعند ذلك قل لي: هل ترى أملك؟/ ثقافة النوق تفنى كلما برقت/لوامع الوعي واسترغى اللظى جملك». إذاً فأفلاطون لم يكن الفيلسوف الذي نعرف حقيقةً، بل هو رمز يكشف للمتلقي أن الحديث في القصيدة إنما هو مونولوج، والمونولوج: حديث النفس، ويعرّف بأنه الخطاب غير المسموع وغير المنطوق الذي تعبّر به شخصية ما عن أفكارها الحميمة القريبة من اللاوعي، وتوظيف هذا النوع من الحوار يبرز أفكار الشخصية ومشاعرها. واتخذ الشاعر من أفلاطون رمزاً يتحدث من خلاله الشاعر إلى ذاته، ونافذةً يطل منها إلى أفكاره التي يريد أن ينقلها إلى وعي المتلقي، ولعل الشاعر الهلالي وجد نفسه تتنازعها المعرفة والعلوم الحديثة من جهة والثقافة التقليدية من جهة أخرى، وأسهم حرف القافية الكاف - وهو حرف مهموس - في هذا الحوار الداخلي وهمس الشاعر إلى نفسه، فضلاً عن أن سكون الكاف كثّف سمة الهمس فيه. وها هو ذا يتمرد على الثقافة التي يرى هو أنها لم تعد صالحة لكي تقوم عليها الحياة: يا حادي الضوء ما قام الضياء على/ أفكارك السود إلا في الغياب دلك/وما تبرج حلم في الشباب سناً/ إلا تبرأ من عينيك ثم هلك. ولئن كان أثر التضاد والطباق جلياً في إبراز الصراع الداخلي لدى الشاعر، وتصوير النوازع الفكرية المتضاربة، فإنه كذلك ذو أثر فني في جمالية القصيدة التي انتهك بعض جمالها ما وقع فيها من أغلاط طباعية أدّت إلى أخطاء نحوية ولغوية. * شاعر سعودي.