سعادة المشرف على ملحق الأربعاء الأسبوعي الأستاذ فهد الشريف الموقر السلام عليم ورحمة الله وبركاته.. طالعتنا جريدتكم الغراء في ملحق الأربعاء الصادر بتاريخ الحادي عشر من ربيع الثاني المنصرم هذا العام بمقال نقدي، إن جاز لي تسميته نقدًا فالناقدة (اعتدال موسى ذكر الله) ، في نقدها ديوان حسن بن محمد الزهراني الموسوم ب (ريشة من جناح الذل) ، جعلت ذائقتها ميزانًا للنقد ولم تكن منهجية في نقدها، وطبقت الأقيسة العقلية الجافة على نصوص الزهراني، وهي بذلك تسلك مسلكًا سلكه قبلها قدامة بن جعفر حين حاول أن يطبق على الشعر الأقيسة العقلية الجافة في كتابه نقد الشعر ونقد النثر، وقد زجت الناقدة بمصطلح الولاء في نقدها في قولها الولاء للأم، وكان يجب عليها التحرز في إطلاق هذا المصطلح لأنه من المصطلحات المثيرة للجدل فهو يرتبط بالسلطة والحرب حتى وإن ارتبط حديثًا بالمجتمع والقيم الأخلاقية يظل أكثر ارتباطًا بالحرب. ثم جاءت بما لم يأت به الأوائل في قولها (الخد والقد) فقالت القد والخد يأتيان بمعنى واحد، ولست أدري أي معجم لغوي استقت منه هذه المعلومة؟ فالخد كما تعرَفه المعاجم هو: في الوجه، والخدان: جانبا الوجه، وهما ما جاوز مؤخر العين إِلى منتهى الشدق؛ وقيل: الخد من الوجه من لدن المحْجِر إِلى اللَّحْي من الجانبين جميعًا ومنه اشتق اسم المِخَدَّة، بالكسر، وهي المِصْدَغة لأَن الخد يوضع عليها، وقيل: الخدان اللذان يكتنفان الأَنف عن يمين وشمال؛ قال اللحياني: هو مذكر لا غير، والجمع خدود لا يكسر على غير ذلك؛ واستعار بعض الشعراء الخدّ لليل فقال: بَناتُ وَطَّاءٍ على خَدِّ اللَّيْلِ، لاِمِّ مَنْ لم يَتَّخِذْهُنَّ الْوَيْل يعني أَنهنّ يذللن الليل ويملكنه ويتحكمن عليه، حتى كأَنهنَّ يصرعنه فيذللن خدّه ويفللن حدّه. الأَصمعي: الخدود في الغُبُط والهوادج جوانب الدَّفتين عن يمين وشمال وهي صفائح خشبها، الواحد خَدّ. (لسان العرب) أما القد في (مختار الصحاح) فهو: القامةُ، والتقطيعُ. يقال: قدَّ فلانٌ قَدَّ السيف، أي جُعِلَ حَسَنَ التقطيعِ ولست أدري كيف اهتدت الناقدة إلى أن الخد هو القد وفي فلسفة الأضداد فقد قال ابن حزم: ووجه الاختلاف في الأضداد أنه يأتي في ثلاثة مستويات في ألفاظ اللغة العربية وهي: - تسمية اللفظة الواحدة للدلالة على معنيين متضادين، أي أن تأتي باسم واحد لشيء وضده، من ذلك استعمال العرب مثلًا (الجون) للدلالة على الأسود والأبيض، و (الجلل) للعظيم من الأمور، وللصغير منها، ومن الكتب التي قامت على هذا الحد أبو حاتم السجستاني، والمبرد وثعلب في (المجالس) وغيرهم. هنا سأتوسع في هذا المنحى لأن الناقدة الفذة ربما لم تطلع على المراجع التي ذكرتها ولو فعلت لما أتت بتلك الباقعة فجعلت الخد قدا وحتى لا تأتي في نقد قادم وتجعل الكراع ذراعًا وتلوي عنق اللغة وتحكم ذائقتها للفتك بالإبداع الأضداد: لفظتان أحدهما ضدّ الآخر، أي اختلاف تضاد لا اختلاف تغاير، وهذا ما أجمعت عليه كتب فقه اللغة العربية القديمة والحديثة. - الأضداد جمع الضدّ، (وضد كل شيء ما نافاه، نحو البياض والسواد والسخاء والبخل، وليس كل ما خالف الشيء ضدًَّا له، ألا ترى أن القوة والجهل مختلفان، وليسا ضدين، وإنَّما ضدُّ القوة الضعف، وضد الجهل العلم، فالاختلاف أعم من التضاد، إذ كل متضادين مختلفين وليس كل مختلفين ضدين) . وهذا ما ذهب إليه أبو الطيب اللغوي وهنالك من يرى أن الأضداد هي (اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين. فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب. واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب وانطلق. واتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: وجدت عليه من الموجدة، ووجدت إذا أردت وجدان الضّالة. وأشباه هذا كثير وهنالك من أنكر على العربية وجود هذه السمة كمثل ابن درسويه وألف كتابه (إبطال الأضداد) ، وكذلك أبو الحسن الآمدي حين عدوا التضاد من الاشتراك اللفظي ولم ينتبهوا إلى أنه غير مبني على التغاير فالأضداد هو اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، وهو القياس الذي يجب أن تكون عليه الألفاظ، لأن بذلك تنفصل المعاني ولا تختلط وهذا يعني إخراج كل الألفاظ التي تتفق في اللفظ وتختلف في المعنى لأنه ليس من الأضداد فهذا هو التفسير فقه اللغة للأضداد، أمَّا التفسير الوجودي والإنساني للتضاد فيتأتّي من خلال الإنسان ورؤاه المتعددة في توليد الأضداد أو وجودها في حياته والكون الذي يستمد منه فلسفته الخاصة في رؤية الأشياء والمكونات الأخرى التي ارتبط بها كنتيجة تفاعلية بينه وبينها الرؤية النفسية: التي تتكون من تداخل الرؤية الذاتية مع الرؤية الحقيقية (الموضوعية) ، لأن الرؤية الذاتية النفسية هي التي تحدد رؤيتنا الموضوعية للأشياء، أي الرؤية الشخصية وتتولد الرؤاه التعبيرية والأدائية اللغوية ومن ثم تقعيد الألفاظ التي قد تتباين في اتفاقها أو تضادها والتي من خلالها يعبر الإنسان عن كل ما يختلج في ذاتيته من أفكار وأحاسيس، كل حسب تفاعله الحياتي، وحسب إمكانياته التعبيرية التي يمتلكها كثرة لغوية مستنبطة من رؤاه المتجددة والمتغيرة ومن الجدير بالذكر إنَّ في حياتنا الحالية تصارع الأضداد، والجدل الدائر في العالم ما هو إلا جدل الأضداد (الحب والكراهية) والغريب العجيب أن الناقدة ذهبت في رؤاه إلى مذاهب شتى لا علاقة لها بنقد الشعر إطلاقًا فكل لفظة لم تستغها ذائقتها عدتها عيبًُا فهي فبعد باقة القد والخد جاءت بطامة التشبيه غير جاد في قول الزهراني (وأدمى طرفي الأفق) وتصر على جعل الأرق بدلًا للأفق وهذا دليل إثبات على أن الناقدة ما زالت تحصر نفسها في النقد القديم وكم نعلم أن الصورة الشعرية الحديثة توسيع لأفق اللغة وتوسيع للكون الشعري حتى تضاهي الكون الوجداني اتساعًا (حزنا وفرحًُا، وتوترًا وهدوءًا، وحبًا وكراهية) فهل اعتادت الناقدة على صورة واحدة تدمى الطرف الأرق؟ الصورة التي نسجها حسن الزهراني أكثر اتساعًا في نسج صورته الشعرية وهو بذلك يخلق عالمًا جديدًا للإبداع بعيدًا عن المنطق الذي تنهجه الناقدة وهو بذلك يوسع مساحات الإبداع بينما الناقدة تقلصها حتى تصبح بحجم ذائقتها فصورة الأرق المبتسرة منذ طلليلة امرئ القيس، ما ذهبت إليه الناقدة من أن الضياء مرتبط بالقمر فهذا فهم خاطئ لقول الزهراني (أنت شمس أضاءت ليل فؤادي) فالمشبه مصدر الضياء والنور والدفء، والليل ليل فؤاده وليس الليل المتعارف عليه والضياء لا يرتبط بالقمر فقط كما أشارت الناقدة قال تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا) سورة يونس، ليت الناقدة ذهبت إلى القرآن الكريم، فالقرآن جمع فأوعى وهو الدليل الأقوى، خلاصة القول أن الناقدة جاءت بعموميات لا تسمن ولا تغني من نقد، لم تستوعب الطاقات الفنية عند حسن الزهراني فبنت مقالها النقدي عن استقراء ناقص لديوان الزهراني ريشة من جناح الذل، وعادة سلامة الأحكام وصحة النتائج تعتمد دائما على صحة المقدمات وسلامتها، ثم ان الناقدة جعلت التكرار اللفظي مأخذًا على الزهراني وقد وجدت لها ديوانا لست بصدد الحديث عنه الآن لكن جله تكرار ألفاظ ومعان إن لم يكن كله، ثم ان التكرار اللفظي طرق للمسامع ولهذا جاء التكرار من أول سورة الرحمن حتى آخرها، خاصة أن تكرار اللفظ لدى الزهراني مسوغ، فالديوان كله ينحصر في الرثاء، والرثاء يحتم على الشاعر عد المناقب التي عرف بها المرثي، وهل الأمهات إلا شموس تضيء أفئدتنا؟ ثم إني أسأل الناقدة اعتدال ألم يتبادر إلى ذهنك وأنت تقرئين (سجدت على جمر الأسى رئتي أن الشاعر اتخذ من السجود كناية عن الحزن وتتابع الزفرات الحرى وفي السجود تذلل وخضوع لله سبحانه ورضاء بما حكم الله من قضاء، ثم إني أسأل الناقدة من أين يأتي الشهيق والزفير؟ أليست الرئة مصدرًا لشهقاتنا وظيفة القلب ضخ الدم إلى سائر الأعضاء في الجسد والصدر كهف يحمي ما بداخله من الأعضاء فمن أين أتيت بنتائجك فقلت غالبًا الآهات في الصدر أو القلب؟ ثم ماذا لو سألت الناقدة عن الشدو أين تقترح أن يشدو هزار اليتم في ضلوع الشاعر؟ ان اللحن هنا الذي قصده الشاعر هو الدمع فلا مكان للهزار غير الأهداب حتى يتصبب اللحن دمعًا فنعرف أن هناك هزارًا خفيًا يشدو وهو اليتم، خلاصة القول: أن النقد لا يخضع إلا للمعرفة بالفن الأدبي وهو عملية فكرية واعية يستجمع فيها الناقد طاقاته الفكرية في محاولة جادة للكشف عن الطاقات الفنية عند الأديب من خلال تأمل ونظر فاحصين إضافة إلى الذوق الفني الرفيع للناقد والأخذ بعين الاعتبار أن الصورة الواحدة تختلف في درجة الوضوح من ناظر إلى ناظر والصورة لا ترتبط بالادراك الحسي فقط عند أكثر النقاد في المذاهب الفنية الحديثة على اعتبار أن لها دلالات متعددة أهمها: الصورة الذهنية والصورة بوصفها مجازًا، ثم الصورة بوصفها أنماطًا تجسد رؤية رمزية أو حقيقية أو حدسية، فهي رسم بالكلمات، فقد تجاوزت الدراسات النقدية المفهوم البصري للصورة تأسيسا على الاختلاف الشديد في درجة التبصر أو الاستبصار بين البشر والنقد المتعجل يؤدي إلى جناية على النص الإبداعي وهذا ما اتسم به نقد الأستاذة اعتدال موسى ذكر الله. الهوامش: 01تحولات الصورة الشعرية في قصيدة ما بعد الحداثة (أماني فؤاد). 02لسان العرب. 03مختار الصحاح. 04نظرات في أصول الأدب والنقد الدكتور بدوي طبانة. 05النقد الأدبي أصوله ومناهجه سيد قطب. 06فلسفة الأضداد عند ابن حزم د. وفاء العزي.