ذات ظهيرة من تشرين الأول (أكتوبر) 1974، التقيتُ صدفةً بعبد القادر الشاوي في شارع 11 يناير في المدينة الجديدة في الدار البيضاء. كنا أصحاباً مذ جمعتنا كلية الآداب (فاس) في منتصف الستينات، صحبة لم تتوثق إذذاك بسبب تباين الميول السياسية لكلينا في ذلك الزمن الحامي، ولنزوع الشاوي إلى الوحدة والنضال السري. رحنا نتبادل أطراف الحديث إلى أن اقتربنا من بيته، في زقاق فرعي من الشارع نفسه، فودعته على خمسين متراً منه وانصرفت إلى حال سبيلي، لأعلم بهدها أن البوليس السري أطبق عليه وأني نجوت بالصدفة من موجة اعتقالات شملت أبناء اليسار (الماركسي بخاصة)، وحوكم فيها المنتمون إلى حركتي «23 مارس» و»إلى الأمام»، بتهمة التآمر على أمن الدولة وحكم عليه هو سنة 1977 بعشرين عاماً سجناً إلى أن أطلق سراحه سنة 1989، في موجة انفراج سياسي. بحسباننا لميوله الأدبية المبكرة في تعليمه الثانوي بمدينة تطوان بشمال المغرب، (ولد في أطرافها سنة 1950)، فإن دخول الشاوي إلى السجن مثَّل حقاً نقطة تحوّل في مسار سيبدأ معه صاحبها، لو صحّ التعبير، حياة جديدة، تكونت فيها شخصيته إنساناً وكاتباً ومثقفاً عضوياً، في تجربة فريدة بَنَت هذه الشخصية وجعلته بين أبناء جيله - إلى جانبه عبد اللطيف اللعبي الذي أُطلق سراحه بعد سنوات معدودة بتدخل من الشاعر الفرنكفوني الرئيس السينغالي ليوبولد سنغور - كاتباً فريداً واستثنائياً حقاً. هذه الحياة بتكوينها المركب والإشكالي والأليم، هي ما عاد إليه الشاوي وكثّفه وصاغ منه كتاباً من أقوى النصوص الأدبية «كتاب الذاكرة» (الفينيك، الدار البيضاء). هو فعلاً حصيلة ما اختزنته ذاكرة عن مسار وعمل مؤلفه وعطائه في ثلاثة حقول: المعرفة والإنتاج في حقلها ضمن تجربة ثقافية معيشة؛ محاولة الإحاطة بموضوعات الكتابة وأفكارها بانسجام مع (هوى) في النفس؛ وارتهانه ككاتب لشرط وجوده الخاص ضمن العلائق المحيطة به؛ أما الحقل الثالث فمشاهد وذكريات في صميم تجربة صاحبها وفي علامات فارقة عنه. بيد أن قيمة هذا العمل الكبرى فتتمثل أساساً في مفهوم الكتابة والتفكير فيها من خلال النصوص التي ألف، إبداعياً، والمؤلفات النقدية والنظرية التي وضع جلها داخل مؤسسة العقاب حيث قضى جزءاً من زهرة شبابه وتلقن فيها أهم ما كوّن ثقافته وعلاقته بالحياة والآخرين. نحسب أن الكاتب ليس من يؤلف الكتب فقط، بل هو يعي ما ينجز بتصوّر قبلي وبعدي، ويمتلك رؤية وطريقة - فكراً وأسلوباً - ويعرف أين وكيف يقف في سياق التجارب الإبداعية بما يميزه ويعد أداة ضرورية لقراءته. بعد أربعين عاماً في هذا المسار يعمد الشاوي إلى توصيف خطته ومكاشفة نفسه بها ليصبح التعريف النظري جزءاً من عملية أكبر تدخل في»إستراتيجية» وجدها الكاتب تتبلور من نص إلى آخر وهو ذاته في العالم المغلق الذي حُجِز فيه من يضع نظامها، من قبيل:» الكتابة آصرة للوهم» (9)؛» الكتابة الأدبية أداة لصوغ المعنى وبلورته بصورة مدركة في قالب جمالي»(10)؛» قدرة الكاتب لغوية وتخييلية على بناء الكون الرمزي الذي يحايث كينونته»(11)؛»السجن في تجربتي الشخصية(...) ساهم في تكوين النظرة العامة التي تسيطر على وعيي الكتابي»(12)... لينتقل بعد هذا إلى الأهم عنده، ويمثل محور الذاكرة وفعل التذكر، أعني أناه، ضمير المتكلم، وهو ليس صيغة نحوية صرفية وحسب بل مفهوماً وفلسفة حياة، ارتباطاً بما يسميه سؤال الكتابة، أي لِم نكتب، وهو ليس جديداً على الثقافة والفكر الأدبي في المغرب، إذ يرجع إلى أربعينات القرن العشرين عندما تساءل سعيد حجي عن الأسباب المتحكمة في تطور الكتابة المغربية، كما تنجزها النخب الأدبية الفكرية. اتخذ السؤال صيغاً تلقى منذئذ بدايات أجوبة نظرية ونصية عند بعض الكتاب المغاربة (غلاب، الصباغ والعروي، من الرواد) وتحول أحياناً إلى مضمار نقاش نقدي، سجالي خصوصاً، حين اقترن بمفهوم الالتزام بمعناه المباشر، لا السارتري، وفي نهاية الألفية الماضية تطور ليرتقي على يد جيل جديد إلى المستوى الجمالي ويحضر فيه المكون الذاتي. تأتي معالجة هذا السؤال عند الشاوي بهيئة مفهومية وعلى منوال أدبي لترسم، «إسترتيجية» الكتابة عنده، وتقدم في آن ما يشبه تبريراً لنهج أدبي (أجناسي) لم يكن لهذا الكاتب عنه بديلاً، وتسويغاً لما أن يمكن أن يحبسه بعضهم في إطار» أدب السجون» الضيق، لا يستقيم مصطلحاً وتقويماً نقدياً، مفتقداً الجدارة الأدبية. يقدم الشاوي، أولاً، مفهوم الذات وصيغتها الخطابية محوراً لأعماله كافة، وثانياً، يتحول هذا المفهوم إلى نسق للنوع الأدبي الذي يتسيّد عنده، وفي صورته ظهرت تعابيره في صياغاتها الذاتية. يعلن صراحة: «مختلف الأعمال الأدبية التي نشرتها إلى حد الآن تقوم على سرود ذاتية متباينة الأوضاع والحالات» (11)؛ ولمن قد ينتقص من الاعتبار الأدبي لهذه الأعمال أن يعلم أن: «الكتابة عن الذات هي في نهاية المطاف تضعيف للوجود المادي لتلك الذات بطريقة لغوية وتخييلية (...) والعالم الذاتي الذي تترجمه مختلف تلك الأعمال هو زاوية نظر وطريقة استعمال ومجال كتابة» (12). ولتقديم إسناد إضافي يكتسب به التعبير عن الذات بعداً موضوعياً (مطلوباً) أي يتعالى عن الدرك الشخصي، فإن» الذات، ذاتي هي مظهر آخر لوجودي المادي في المجتمع الذي تتقاطع فيه»(12). ومن دون القطيعة مع الشأن الاجتماعي يبقى العماد ويرسخ في الإخلاص لتعبير الأنا بلا منازع:» في أغلب ما كتبته إبداعياً كنت شديد الوفاء للقضايا المتصلة بالوجود الفردي عموماً والشخصي على الخصوص(...) لا أجد فيه أي تنكر لمعالجة المشكلات المتعلقة بالحياة الاجتماعية وسواها» (17). وكأن الشاوي أحس بأن دفوعاته هذه، أقرب إلى الفطرة وكلام المسلمات، فجاء ليعززها بأن مفهوم الذات عنده بمثابة هوية «من الناحية الفلسفية والثقافية» تؤثر في تصوره للعملية الإبداعية. ليخلص إلى استنتاج أن:» «الذات عنصر جوهري في العملية الإبداعية عليه تقوم الكتابة وتتصل وفي أجوائها تدور وتنكشف»(17). بيد أن الصيد الحقيقي باقٍ في جوف الفرا، إذ الشاوي، بكل ما احتج به وساقه هويةً وعنواناً، إنما كي ينتصر لنوع أدبي محدد، للسيرة الذاتية، المقدوحة عند بعضهم بأنها تعبير أدنى عن الوعي الفردي بالوجود الشخصي، فيما هي: «من أعمق مستويات الإبداع الأدبي» وأن الرواية ذاتها ليست أكثر من» تنويع تخييلي على مكونات الذات»(18) مع تقصي أن يتم التعبير عن الذات وفق أسلوب وتقنية ورؤية. هكذا، فالنظام الذي أراد الشاوي أن يؤسس عليه قوله السجني، أو وهو في السجن، ينضوي في فن السيرة الذاتية، وهي اختيار فني وخطابي في آن، يؤهلها على أي نوع غيرها وبداخلها ستندرج كل النصوص التي كتب، بدءاً من «كان وأخواتها» (1986) مرورا ب «دليل العنفوان» (1989) و»دليل المدى» (2003) ف «الساحة الشرفية» (1999) وانتهاء ب «من قال أنا» (2006) المجنسة تفريعاً ب «تخييل ذاتي» مما يصدق على النصوص الأخيرة التي غادرت فضاء ولوعة السجن واستعادت التاريخ الشخصي بقدر واضح من الاستيهامات وصوغ محكي على نحو روائي، مواز للذات ومتباعد عنها في آن معاً. ويبقى للعناصر الأوتوبيوغرافية الرجحان والجاذبية، إما صريحة يثبتها الميثاق الأوتوبيوغرافي، أو متخللة، مع التحويل واللعب بمواقع الضمير. وفي الحالتين فإن هذه الكتابة التي انبنت كما يقول منشئها على «احتلاب الذاكرة الشخصية» تقوم بوظيفتين: البوح بالتعبير عن ألم ومعاناة من يعيش التجربة في وداخل السجن. يقترن بالبوح ويعززه موقف الشهادة، تتجاوز الشخصي إلى رسم صورة جماعية ترصد مظاهر سياسية وإنسانية لحياة المعتقلين، وتوفر للتجربة ككل شهادة تروي محنها، بواسطة وأسلوب: «استظهار العذاب والتعبير بالألم»، عما عُرف في المغرب بسنوات الرصاص. ولع عبد القادر الشاوي بالسيرة الذاتية جعله يتبناها أيضاً منحى ونسقاً نظرياً فيحول موضوعها إلى مبحث أكاديمي نال عنه شهادة جامعية بعدما استعاد حريته، وهكذا أمكنه أن يواجه المقولات والسنادات النظرية بالمعيش الشخصي إذ سعى إلى نقله إلى النص الأدبي، وليس أي نص آخر، وحيث يصبح بالإمكان استبصار وإعادة استكشاف إواليات تخلقه وتجنّسه، ليؤهل نوع الكتابة الأوتوبيوغرافية في المرتبة العليا لجنس السرد التخييلي. لا عجب أن يبجل نص التهامي الوزاني السيري: «الزاوية» (1942) بجعله أول نص تخييلي في أدب المغاربة، وبعده يقترح نصوصه ضمناً المكتوبة وفق هذا النسق لتحظى بالاعتبار ذاته، هو الذي يعتقد بأن الإنتاج الروائي المغربي وليد التجربة المباشرة للكاتب، أو تنويع عليها. أياً كانت صدقية هذا الرأي، لِمَ نطلب من هذا الكاتب الذي عاش تجربة استثنائية وأليمة بين أبناء جيله أن يكون غير من وما هو عليه بين أمس واليوم، لقد تطابق إبداعياً وإنسانياً مع ما عاش وليس أفضل من مقوله توصيفاً لهذا التطابق والتناغم:» إن تجربتي في السجن لهي أمر يدعوني باستمرار إلى ما يشبه الافتخار النرجسي، علمتني أن أجعل من ذاتي عنوان تجربتي وخبرتي في الحياة».