تعد السيرة الذاتية من الأجناس الأدبية المثيرة لأسئلة علمية ومعرفية وهي نسيج لاستيعاب التجارب الإنسانية يصل الذات الكاتبة بالذوات المتلقية ويختزل تاريخ البشرية قديمه وحديثه وهي ذاكرة موضوعية تحتل مكانة خاصة باعتبارها تحاكي أكثر من اتجاه وتحوي على أكثر من إطار فمن الإطار التوثيقي الذي يلمس الواقع والتاريخ إلى الجانب الإبداعي الذي يستقرئ تجارب من تكتب سيرتهم الذاتية لكن هذا الفن لازال يخطو خطوات مهملة أو لنقل هامشية وبالتالي ظلت الأعمال المكتوبة منزوية خلف إطارات حبيسة وخجلى. - فأين هم رواد فن السيرة الذاتية الآن ؟ - لماذا يعتبر البعض الخوض في هذا اللون الإبداعي مجرد ترويج أو دعاية متكلفة ؟ - ما هي أسباب انحسار السير الذاتية في أدبنا العربي ؟ - هل الوجوه العربية تستعير هويتها من ابتداع هوية ذاتية غربية جاهزة .. ماهي جملة التحولات التي طرأت في المفهوم العربي لأدب السيرة الذاتية نتيجة مخاضها المتأثر بالكتابة الغربية الصرفة؟ أسئلة يحاول العديد من النقاد الإجابة عليها فيما يلي من كلمات.. يقول الباحث والأكاديمي في قسم الأدب بكلية اللغة العربية خالد الرفاعي عن موقع رواد فن السيرة الذاتية :"يمكن أن نسجِّل على هامش الببليوجرافيا الخاصة بالسيرة الذاتية العربية غيابَ الوعي بماهية هذا الشكل، وسماته وخصائصه .. إن السيرة الذاتية ليست عرضاً ساذجاً لحياة عادية كما نجد في كثير من الأعمال، وإنما موقف فكري ناتج عن تجربة عميقة وصادمة أيضاً كما في " الأيام " لطه حسين... د.عائشة الحكمي: السيرة الذاتية فن أدبي توثيقي للإنسان يقف المؤلف وجهاً لوجه أمام ذاته وقد لا أكون مبالغا إذا قلت إن غياب التجربة العميقة، ثم غياب الموقف الفكري المتمخّض عنها، هو الذي جعل عدداً كبيراً من السير الذاتية العربية كلاماً عابراً في هذه الدنيا العابرة، لا يشفّ حضورها إلا عن شكل من أشكال الغياب...، وهو الذي جعلها خالية إلا من ترويج الذات، وشعرنة أيامها الخالية، وتعرية جوانب منها لا تملك القدرة على خلق الفارق ... ويضيف حول هذا اللون الإبداعي إن كان مجرد ترويج أو دعاية متكلفة :"ثمّة قيم دينية وأعراف اجتماعية تجعل كتابَ السيرة الذاتية في المجتمعات المحافظة بين عاملين ضاغطين: يأخذهم أحدهما إلى ضرورة التعبير حتى لو اجترحوا به مناطق (البوح) و(الاعتراف) و(الكشف) و(الفضح)، في حين يأخذهم الآخر إلى حرج التعبير (حيث لا يجوز للكاتب الاسترسال في تمجيد ذاته وتزكيتها وعرض انتصاراتها وبطولاتها، كما لا يجوز له أيضاً أن يبلغ بالحديث عن ذاته مبلغ الجرأة أو المجاهرة)... خالد الرفاعي هذه القيم (دينية كانت أو اجتماعية) أثّرت كثيراً في حضور هذا الشكل السردي من جهة، وفي طرائق تبنيه ومعالجاته من جهة أخرى؛ لذلك تخوف كثير من المفكرين والأدباء من اقتحام عوالمه، وظلوا زمناً طويلاً معلقين بين الرغبة والرهبة...، وكان من نتاج ذلك أيضاً غياب السيرة الذاتية النسائية حتى في وقت ازدهار نتاج المرأة : الشعري والروائي والقصصي.. خالد الرفاعي: غياب التجربة والموقف الفكري جعلا عدداً كبيراً من السير الذاتية العربية كلاماً عابراً ويتابع الرفاعي حول أسباب انحسار السير الذاتية في أدبنا العربي :"ثمة حضور لا بأس به للسيرة الذاتية في العالم العربي، وإن كان هناك انكماش يشير إليه بعض الباحثين فمرده إلى العاملين السابقين، وإلى غياب الوعي بسمات هذا الشكل وخصائصه، وإلى افتقار الأعمال الصادرة إلى التجربتين : الفكرية والجمالية...، هذا بالإضافة إلى ارتباك الوضع القرائي للأشكال السردية بشكل عام، وضعف مستوى الحرية... أما الدكتورة عائشة الحكمي - أستاذ مساعد الأدب الحديث بجامعة تبوك ورئيسة اللجنة النسائية بالنادي الأدبي بتبوك- فتقول : "كل انسان لديه تجارب وذكريات عميقة في جوانب حياتية عديدة. السيرة الذاتية فن أدبي توثيقي للإنسان يقتضي المطابقة بين المؤلف والسارد او الشخصية المسرودة, فإذا احسن الأديب التعامل مع فن السيرة واشتراطاته سيتمكن من اخراج نص أدبي يتمتع بصفة الديمومة" . وتضيف الحكمي:" السيرة الذاتية فن أدبي محدود الاتساع كل من يجد في سيرته ما يستحق أن يقدم وبعد أن يثق من جرأته وشجاعته في تقديم ما لا يستطيع أحد تقديمه فهي تقوم على حياة كاتبها فإذا كتبها أو كتب أجزاء منها انتهت مهمته, وفي العالم العربي قدم كثير من الأدباء والمثقفين تجاربهم الذاتية أو أجزاء منها بعد أن شعروا بتلك الجرأة والثقة في أسلوبهم وصلاحية حيواتهم لتكون بين يدي القارئ ففي العصر الحديث طه حسين وإبراهيم المازني ومحمد شكري وفدوى طوقان ونوال سعداوي وغيرهم وهي ليست كالأجناس الأخرى تنافس على الريادة اذ لها خصوصيتها وظروفها" . وتعتقد بأن :"من حق كاتب السيرة الذاتية أن يظهر ذاته في النص فهذا احد شروطها ويبرز أعماله وأدواره في الحياة بشرط الصدق في الطرح وهذا ليس من باب الترويج أو الدعاية المتكلفة بل فائدة من تجارب ومواقف انسانية ونجاحات تفيد الآخرين ومن يقتنع بأن السيرة الذاتية دعاية واستعراض فهو ما يزال يخضع لثقافة تذويب الذات في روح الجماعة ويكره ابراز الذات يميل الى تهميشها والإيمان فقط بالجماعة. نحن في عصر غادر انفراد الجماعة بالحياة منذ عشرات السنين نحن في عصر يقول فيه الانسان ها أنا ذا .... وهذه حياتي دون حرج ". وحول انحسار السيرة الذاتية في الأدب العربي تقول :" أمر طبيعي في جو ثقافة ما زالت تقتنع بعدم كشف المستور وأن البوح والاعتراف والصراحة والجرأة والشجاعة وهي أهم مقومات السيرة الذاتية في تسجيل خفايا الأفراد والمجتمع بكل التفاصيل الدينية والسياسية والاجتماعية خارج اطار التفكير فما بالنا بكتابة نص أدبي ابداعي يقتضي الوقوف على تلك التفاصيل دون تردد او خوف. خاصة اذا كان الكاتب أديبا ويعرف خفايا مجتمعه ,,, مع العلم أن المثقفين العرب قادرون على تحويل حيواتهم إلى نصوص سيرية لا نظير لها على مستوى الأدب العالمي كونها ستترجم بيئات بكرا ومليئة بالتحولات والصراعات الدينية و السياسية" . وفي سؤالنا هل الوجوه العربية تستعير هويتها من ابتداع هوية ذاتية غربية جاهزة أجابت الحكمي : " لا أ رى ذلك ممكنا اذا كنا في منطلق النهضة الثقافية قبل 200 عام لكن الآن يدرك المثقف العربي تماما أن التقليد والمحاكاة (عييييب) ومنقصة تقتل سمعة الأديب فما بال ثقافتنا العربية في جذورها كثير من ملمح السير الذاتية والعربي شديد الاعتزاز بثقافته وعروبته خاصة بعد أن حاول الكثير مغادرة هويتهم وفشلوا فكانت درسا للمتأخرين ... الآن الوعي أصبح واسعا حتى على مستوى القبائل في مجتمعنا نلاحظ كل قبيلة تحاول ابراز ملامح التميز فيها عبر الاعلام والكتابة والصورة كان في الماضي يستحي بعض الناس حتى من قبائلهم الآن يقول أنا من كذا بفخر لأنه يدرك أن الآخرين أصبحوا على وعي ,,, ولذلك ارفض فكرة أن الوجوه العربية تستعير هويتها من هوية ذاتية غربية إلا الذي انسلخ من مجتمعه العربي منذ عشرات السنين فهو هنا واقع تحت صياغة شخصية مختلفة مهجنة ". وتختم الحكمي حديثها :"بأنه مازالت السيرة الذاتية العربية تعاني من عدم تفعيل المقومات المذكورة في فقرة سابقة لكن إلى حد ما بدأ الأدباء يهتمون بالتخلص من التلميح أو الاختفاء وراء جنس الرواية أواتخاذ الرواية قناعا والدليل كتاب صدر مؤخرا للناقدة زهور كرام (بعنوان ذات المؤلف من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي» ) فظهرت مصطلحات سردية مثل المحكي والتخييل الذاتي او رواية الرواية. لا يتعلق الأمر في هذا المستوى بشكل حضور المؤلف في السيرة الذاتية التي تعتمد مبدأ «المطابقة بين المؤلف والسارد والشخصية» كما حدده «فليب لوجون»، ولكن المؤلف في الشكل السردي الجديد يقف وجهاً لوجه أمام ذاته، في محاولة منه لخلق مسافة معها وتحويلها إلى موضوع للتأمل. تنتقل الذات -مع الوضع السردي الجديد- من مصدر المعرفة إلى موضوع للمواجهة، من موقع اليقين إلى اللايقين". د. نبيل المحيش ومن جهته قال الدكتور نبيل المحيش أكاديمي سعودي : أثيرت ولا زالت تثار كثير من الأسئلة حول أدب السيرة الذاتية وخاصة حول مفهومه وعلاقته الملتبسة بالأجناس الأدبية الأخرى كالرواية .. وإذا تتبعنا رواد كتابة السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث بدءاً من طه حسين وكتابه الأيام مروراً بالعقاد في كتابيه : (أنا) و (حياة قلم) وأحمد أمين في كتابه (حياتي) وانتهاء بنجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وعبدالرحمن الربيعي والطيب صالح وغازي القصيبي ومعهم عشرات الأدباء العرب الذين كتبوا سيرهم الذاتية ... إذا تتبعنا هذه السير ودرسناها دراسة متأنية فإننا سنصل إلى إجابات واضحة على كثير من الأسئلة التي تحيط بهذا الجنس الأدبي المشكل .. د. نبيل المحيش: تثار كثير من الأسئلة حوله .. مفهومه وعلاقته الملتبسة بالأجناس الأدبية الأخرى كالرواية ومنها دفع التهمة التي توجه لمن يكتب سيرته بأنه يقدم عبر سيرته دعاية لنفسه وترويجاً لذاته .. صحيح أن هناك سيرا ذاتية عربية تافهة ولا تستحق القراءة لكنها ستظل تافهة ولا يلتفت إليها أحد من النقاد المعتبرين ولكن السير الذاتية التي كتبها صفوة الأدباء والنقاد العرب المعاصرين ستظل مصادر مهمة للباحثين والدارسين عن هؤلاء الكتاب أو عن فن السيرة الذاتية عموماً .. وقد قام جورج ماي في كتابه (السيرة الذاتية) بإيضاح الدوافع المتنوعة التي دفعت الكتاب لكتابة سيرهم وقسمها إلى قسمين : [1] دوافع عقلانية رصينة . [2] دوافع انفعالية وأسباب غير عقلانية . وأبرز الدوافع العقلانية التي تدفع إلى كتابة السيرة الذاتية هو رغبة الكاتب في تسجيل شهادته هذه الشهادة المهمة لأنها بقلم الأديب نفسه. وهذا يجرنا للحديث عن سؤال آخر حول أسباب انحسار السيرة الذاتية في أدبنا العربي .. وللإجابة على هذا السؤال فإني كنت في المغرب قبل بضعة أسابيع والتقيت هناك الشاعر العربي سعدي يوسف وسألته هذا السؤال : لماذا لم تكتب سيرتك الذاتية ؟ فكانت إجابته لي : لن أكتب سيرتي لأن المجتمع العربي لن يتقبل صراحتي التامة حين أكتب سيرتي . إذاً فنحن أمام إشكاليتين : الأولى الصراحة في كتابة السيرة الذاتية. وتقبل المجتمع العربي لهذه الصراحة . لقد أثيرت ضجة كبيرة حين نشر محمد شكري سيرته الذاتية (الخبر الحافي) لما فيها من صراحة صادمة للمجتمع وتعرية للذات ولمجتمع المغرب وحديثه الصريح حول الدعارة وتجربته الذاتية التي لم يُخْفِ شيئاً منها .. والإشكالية الثانية هي تقبل المجتمع : إن المجتمع الغربي وصل إلى مرحلة أصبح فيها يتقبل برحابة صدر اعترافات الكتاب الصريحة جداً ، أما نحن فنعيش في مجتمع عربي مسلم لا يمكن فيه قبول هذا النوع من الكتابة .. وأخيراً عند الحديث عن التحولات التي طرأت على مفهوم أدب السيرة الذاتية من ناحية منهج كتابته .. فإننا لا بد أن نعترف بأن هذا الفن متعدد الأشكال ما بين سيرة ذاتية وأدب المذكرات وأدب الاعترافات واليوميات ويتقاطع أحياناً مع أدب الرحلات ويتخفى عند عدد من الكتاب في ظل الرواية السيرذاتية .. ونعترف بأن هذا الفن ومنهج كتابته غربي بامتياز وقد اصطنع الغربيون منهجاً تاماً جديراً بالإعجاب في هذا الفن . بدوره يقول الشاعر والناقد محمد العامر الفتحي : ليس من الممكن الحديث عن تجربة إبداعية عربية مكتملة الخلق، تنتظم الوطن العربي شرقه وغربه ، بل أعتقد أنه ينبغي أن نتعاطى مع الواقع الإبداعي في رؤيته الشاملة عربيا على أنه ممزق أكثر من كونه ملتئماً، وعلى أنه يتكون من تجارب تختلف في المنهج والرؤية وطرائق الإرسال أكثر مما تلتقي في أي منها ، ذلك لما يلاحظه كل ذي حظ من النظر في تجارب الأقطار المختلفة من انحياز إلى ظروف تلك الأقطار ، وتأثر بتماسها مع الآخر بقدر ابتعادها عن العربي في شرق الوطن العربي أو غربه وعلى هذا فإنني سأكون ممتناً للسعي إلى تقييد بيئة النظر ، ومحاولة التشبث بشيء من إمكانية استنطاق الجغرافيا القريبة . محمد العامر الفتحي: اختلاف ثقافتنا عن الغرب حال دون ظهور سيرة ذاتية نستطيع أن نتخذها نموذجا وبدءا يجب أن نعي أن واقعنا الاجتماعي، وانحراف الفكرة الأدبية عن مسارها المستقل إلى سراديب لا تكوّن بيئة أدبية محايدة ، وضعف التجربة الإبداعية أمام الذات التي يكون حضورها قيداً دامياً في معصم الكتابة التي تأمل أن تكون منعتقة إلا من الإبداع والصدق ، وضعف التجربة الإبداعية لذاتها في مواضع أخرى ، قد ساهم بسخاء في حرمان التجارب المتعاقبة في كتابة السيرة الذاتية من جوهر تكوينها ، وسلبها أهم عناصر نجاحها . ولا يعني هذا على الإطلاق أننا ننفي نجاح تجارب كتابة السيرة الذاتية في المملكة العربية السعودية مثلا جملة وتفصيلاً، بل إنني أعتقد أننا يجب أن نصفق للمحاولات الصادقة منذ أيام السباعي وحياة كتبي والسوانح والوسم وغيرها وغيرها . بيد أننا ما زلنا نتلمس الطريق التي تأخذنا إلى حالة نضج تخرج لنا (الأيام) إذا أعطينا القناعة مساحة من الحكم . ولعل افتقارنا إلى تجارب كاملة العناصر في ميدان السيرة الذاتية يرجع إلى ما تحدثنا عنه قبلا من كونها كائناً يقوم على أعمدة النجاح المتمثلة في الصدق في تناول التجربة بكل ما فيها من حلو ومر ، وما عاشته من نقاء وأدران ، بالإضافة إلى القدرة الفنية التي تحتفل بالتأريخ في ميدان الإبداع ، ومن الجلي أن ضعف القدرة على الإبداع في ميدان الرواية يضعف كثيرا محاولات الكتابة في باب السيرة الذاتية . وإذا كانت الحياة في أوروبا وفلسفة الاعتراف طلباً للغفران قد يسّرت أمر خوض تجربة الكتابة عن الذات بشفافية، وتجربة تلقي تلك الكتابات الصادمة أحيانا بشيء من الموضوعية ، بالإضافة إلى ما قلناه عن وصول الفن الروائي إلى درجات عليا من النجاح، فإن علينا أن نعي أن اختلاف ثقافتنا عن الغرب وتواضع إنجازاتنا في ميدان الرواية قد حال دون ظهور سيرة ذاتية نستطيع أن نتخذها نموذجا نرضى عنه من الوجهة الفنية الخالصة .