مسوغ السؤال هو ما جرى بعد ذبح الكاهن الفرنسي جاك هامل في كنيسة قريته، بفعل جهادي مسلم، يقيم في القرية نفسها، قرب مدينة روان بشمال فرنسا. بعد هذا الاعتداء المروّع والصادم للرأي العام الفرنسي والعالمي، اهتمّ المسؤولون الفرنسيون، وفي مقدمهم رئيس الجمهورية فرنسوا هولاند، بإجراء المصالحة بين الكاثوليك والمسلمين. وكان الرئيس الفرنسي قد رعى قبل ذلك، مصالحة بين اليهود والمسلمين، بجمع ممثلي الطائفتين، بعد مجزرة شارلي إيبدو، والاعتداء على المتجر اليهودي، في كانون الثاني (يناير) من العام المنصرم. يومها لفت نظري الحدث، وكان تعليقي أن الرئيس الفرنسي يرعى مصالحة وطنية بعقلية المحاصصة الطائفية، على الطريقة اللبنانية. وإنها لمفارقة عجيبة أن تقتدي بنا فرنسا بعد أن أورثتنا الديموقراطية منذ قرنٍ بالتمام. واليوم تعدى الأمر لقاء رؤساء الطوائف، إلى تبادل الزيارات، على مستوى العبادات، إذ شارك فرنسيون مسلمون، وبالأخص مسلمات محجّبات، في القداديس التي أقيمت لذكرى الكاهن الراحل. وفي المقابل شارك كهنة في صلاة الجُمُعة التي أقيمت في المسجد المجاور للكنيسة التي ذبح فيها الأب جاك هامل. قد يكون لمثل هذه الأعمال فائدتها في هذه اللحظة الحساسة والحرجة، في تهدئة الخواطر والتخفيف من أجواء الغضب والتشنج. ولكن جمع الطوائف لا يحلّ المشكلة، ربما يزيدها تعقيداً؛ إذ هو يعالجها بالوسائل التي انتجتها؛ أي التعامل مع المجتمع الفرنسي، كما لو أنه مجموعة طوائف لكل واحدة وضعيتها الخاصة، بما يجعلها دويلة داخل الدولة، وأحياناً فوقها أو خارجها. هذا ما فعله اليهود الذين يتصرّفون دوماً بوصفهم طائفة استثنائية تقيم «عقداً» مع الدولة الفرنسية، كما يعتقد أو يرغب ويكتب بعض المثقفين اليهود. الأمر الذي ينسف مبدأ الديموقراطية بما هي خضوع الجميع بالتساوي أمام القانون، من غير امتياز لفئة أو لطائفة على أخرى، بقدر ما يُحدث شرخاً في المجتمع الفرنسي بتحويله إلى جملة طوائف متصارعة. وهذا ما فعله، بعد اليهود، المسلمون الذين أتوا متأخرين، ليشكّلوا طائفة في فرنسا، بعد أن خرج الكاثوليك، وهم أكثرية السكان الأصليين، على طائفتهم، ليعيشوا كمواطنين، في دولة علمانية، مدنية، ديموقراطية. وهكذا فقد تشبّث المسلمون بهويتهم الدينية على حساب هويتهم الوطنية الفرنسية. فطالبوا بحريات كانت الدولة قد انتزعتها من الكنيسة الكاثوليكية، وحاولوا فرض نمط حياتهم الديني، بشرائعه وقيمه وطقوسه وعاداته، بما يفضي إلى نوع من أسلمة الحياة الفرنسية. * ومما له دلالته البالغة أن يصدر في فرنسا، مع مطلع هذا العام، أي بعد سلسلة الاعتداءات التي تعرّضت لها باريس في عام 2015، كتابان: الأول للفيلسوف برنار هنري ليفي وعنوانه «روح اليهودية»، وفيه يذهب إلى أن فرنسا هي دولة جاحدة، إذ هي «تنكر كونها صنيعة اليهود»، هكذا بكل شعوذة فكرية ونرجسية دينية. أما الثاني فهو للداعية طارق رمضان وعنوانه «عبقرية الإسلام»، وهو كتاب يعزّز النرجسية الثقافية لدى المسلم الفرنسي، بقدر ما يدعوه إلى التمسّك بهويته الدينية على حساب هويته الوطنية، ما يعرقل عملية اندماجه في المجتمع الفرنسي. ولذا، فالكتابان يشكّلان، كل واحد على طريقته، نوعاً من الحرب الإيديولوجية على فرنسا، تضعها بين فكّي كماشة التهويد والأسلمة. وما يُخشى هو أن يكون قد فات أوان المصالحات بين الطوائف، بعد مجزرة نيس وذبح الكاهن، لأن ذلك سيؤدي إلى نهوض الكاثوليك بعد سكوتهم واستضعافهم. فالأهواء والعصبيات لا تنجح دوماً مواجهتها بالإستراتيجيات العقلانية، بل بمثلها من العصبيات الطائفية. الأمر الذي يشكل مصدر خطر على اليهود والمسلمين، الذين قد يجتمعون في مواجهته على رغم ما بينهم من العِداء. من هنا المسؤولية الكبرى والجسيمة التي تقع على عاتق المسلمين الفرنسيين، إذا شاؤوا المساهمة في إيجاد حلول ناجعة للمشكلة العويصة التي تواجهها فرنسا. - والخطوة الأولى هي محاولة فهم المشكلة وتشخيصها لا الالتفاف عليها. ما عاد يُجدي وضع الملامة دوماً على الدولة الفرنسية وعلى المجتمع الفرنسي. كما لا يُجدي القول إن الإرهاب هو دخيل على الإسلام. الأجدى هو الاعتراف بالحقائق، كون الإرهاب الجهادي هو ثمرة المشاريع الدينية الأصولية والسلفية، بقدر ما هو ثمرة الطائفة الإسلامية في فرنسا، إذ هي شكَّلت حاضنة له، بدعاتها وأئمتها ومساجدها وجمعياتها. ولا طائل هنا من ادخال القرآن في المناقشات الدائرة حول علاقة الإسلام بالإرهاب، لأن القرآن مفتوح على ما اختلف وتعارض من القراءات والتأويلات. والذي صنع هوية المسلم، ليس فقط مبدأ التعارف ولا فضيلة التقوى اللتين يحض عليهما القرآن، بل أيضاً المنظومات العقائدية والأنساق الفقهية التي أسّست وشرَّعت للعداوة بين المسلمين أنفسهم، ثم بينهم وبين سواهم، لأنها تضيق ما اتسع وتقطع ما اتصل. هنا يكمن جذر المشكلة. وعليه، مع تقديري الفائق للبابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، فإن نفيه علاقة الإسلام بالإرهاب ناجم بالتحديد عن كونه ينظر إلى الدين ، أيّ دين، بعين الحداثة ومكتسباتها في الإنسانية والعقلانية أو في العلمانية والديموقراطية، وعلى ما جرى بعد تراجع الكنيسة أمام العالم الحديث وتأثرها بمنظومة مفاهيمه وقيمه، فيما لا يزال المسلمون يتعاملون مع الدين بمنظار ما قبل الحداثة، أي كمعسكر يُدار بثنائية الإيمان والكفر، مما يجعلهم يقفون على أرض الأصولية. ولن يتغيّر الأمر قبل هزيمة المشروع الإرهابي وتفكيك معسكراته العقائدية. بذلك ينفتح المجال أمام رجال الدين لكي يتحلّوا ولو بذرّةٍ من التُقى والتواضع بالتحرُّر من تهويماتهم النرجسية العقائدية، ولكي يمارسوا علاقاتهم بهوياتهم الدينية لا كمتراس، بل بوجه حديث وإنساني. - الخطوة الثانية هي تحرّر المسلم الفرنسي من الوصاية التي تمارسها عليه السلطات والمؤسسات الدينية المدعومة من الخارج، لأن ذلك يخرب علاقته بشريكه في الوطن واللغة والمصير، تماماً كما تفعل الدعوات والمشاريع والسلطات الدينية في البلدان العربية. وإذا كانت القيادات الإسلامية قد فشلت، على أرضها، في معالجة الشأن الديني بعد أن خرج الأمر عن سيطرتها وانفجر حروباً أهلية، فإن تدخّلها في شؤون المسلمين الفرنسيين والأوروبيين لن يصنع سوى الكارثة. - الخطوة الثالثة أن يحسن المسلم الفرنسي الاندراج في مجتمعه، بحيث يتصرف كمواطن فرنسي هو صاحب هوية عابرة للأطر الطائفية، ويدافع عن حقوقه أو يمارس نشاطاته السياسية وحرّياته، كأي فرنسي آخر، عبر انخراطه في الأطر والمؤسسات والهيئات النقابية أو الحزبية أو المدنية، وعبر مشاركته في الفضاء العمومي، بالمناقشات العلنية الحرّة والمفتوحة. أما ممارسته هويته الأصلية بعقلية المعسكر الطائفي، فإنها ترتدّ عليه وعلى المجتمع الفرنسي، توترات ونزاعات وانقسامات، والأخطر أنه يعيد الكاثوليك إلى طائفيتهم بعد أن خرجوا عليها. من هنا، لستُ مع شعار «كلنا كاثوليك»، ولا مع نزول المسلمين الفرنسيين إلى الساحات، وحدهم، لإدانة الاعتداءات الإرهابية، لأن ذلك هو من علامات الانقسام الطائفي، تماماً كما أن ارتداء الحجاب بل النقاب في الفضاء العمومي هو من العلامات الثقافية الفارقة، التي تميز بين المسلمة وغير المسلمة، ومآل ذلك هو تلغيم المجتمع الفرنسي. خلاصة القول، في هذه الحرب على فرنسا، إن كل طرفٍ يحمل قسطه من المسؤولية، فرنسا لتراخيها وعجزها، والمسلمون لتشدّدهم وتطرفهم. وأياً يكن فالأمور قد تغيّرت ولن تعود كما كانت عليه. والعاقل هو الذي يحسن أن يتغيّر، كي لا يحصل الأسوأ. لذا فالرهان هو خروج المسلم من قوقعته الطائفية، كي لا يعود الكاثوليكي إلى قوقعته، فالمجتمع الديموقراطي والمدني هو أقوى من أي قوة فيه، بقدر ما يتعدى مختلف مكوناته الثقافية. وهذا العصر الكوكبي، هو عصر الهويات العابرة، لا عودة للهويات الفرعية إلا على نحوٍ مرعب، أو على سبيل الانشقاق.