كلما اندلع حوار على الشاشة الصغيرة، بين مثقفين أو من هم معنيون بشؤون الفكر والفن والإعلام، يتحول الحوار الى مساجلات عاصفة محورها الشكوى من أن الفضاء العربي - وبالتالي المواطن العربي - يئن تحت وطأة مئات المحطات التلفزيونية والفضائية التي تغرقه. وغالباً ما تكون الشكوى عامة، لا تستند الى احصائيات أو معطيات رقمية أكاديمية فيتخبط المتحاورون خبط عشواء، مبتكرين استنتاجات و«حقائق» لا يمكنها أن تصمد كثيراً أمام أي فحص منطقي. والأدهى أن أغلب الشكوى يدور حول نظرية المؤامرة التي «يطبخها الاستعمار ودوائره في محاولة منهم لإفساد الوعي العربي»، كما يقول كثر من المتحاورين من أنصار الحديث عن هذه النظرية. وهنا، إذ يسألهم محاوروهم، من رافضي المغالاة في هذا الحديث أن يضربوا مثلاً واحداً عن محطات مؤامرات، أو أخرى تدعو الى الامبريالية والى تبييض وتلميع صورة أميركا (الشيطان الأكبر.. حسب الفصاحة المتداولة عربياً)، أو ثالثة تحاول وأد ذلك الوعي الوطني العربي الشهير، لا يكون ثمة رد.في أحسن الأحوال يقولون لك: كلها... كل المحطات. وحين تسمي لهم ما لا يقل عن مئة محطة «وطنية» «مقاومة» «شريفة المال والأحوال»... وتسألهم عما إذا كانت عشرات المسلسلات السورية والمصرية، وظهور مئات المناضلين الأشاوس أسبوعياً على الشاشات، وكل هذا الرهط من الفصاحة ذات القبضات الملوّحة دون تعب، جزءاً من المؤامرة يسكتون... ثم يقولون: ربما تكون هذه موجودة، ولكن مقابلها اضعاف مضاعفة من محطات المؤامرة. وإذ تطلب منهم تحديداً، يحيلونك الى عشرات المحطات الإباحية «التي يملكها رجال أعمال عرب»، بحسب زعمهم، كما الى محطات الغناء والرقص. بالنسبة الى أصحاب هذه الحجج، ليس الرقص والغناء، سوى رجس من عمل الشيطان وأخ شقيق للأفلام الإباحية. يقيناً أن كل هذا ليس سوى تعبير عن رعب من الفضائيات نفسها ومن تعدديتها ومن انفتاحها، رعب يعتمل منذ سنوات في مخيلة أولئك الذين يخافون التعدد والمسؤولية الفردية والانفتاح على العالم وعلى الآخر، دفاعاً عن «نقاء» جواني، يفضل الرقابة على الحرية، والوصاية على الانطلاق، وألسنة الخشب على الانفتاح، وأحادية الفكر على التنوع... والتشدد الحزبي على المسؤولية الانسانية... وإذ نقول هذا يجب ألا ننسى أنه إذا كان ثمة من شيء يصب ماء في طاحونة هؤلاء، فإنما هو ذلك الإنفلات الذي يعطيهم مجالاً لرفع الصوت... وفي يقيننا أنه إذا كانت هناك مؤامرة، فالمؤامرة هي هنا: في الانفلات الذي هو الحليف الأكبر للمتزمتين.