تبدو أنقرة في حالة من الفوضى، لكن من المستبعد أن تمنعها محاولة الانقلاب الأخيرة من اتخاذ الخطوات اللازمة لكي تبرز كقوة كبرى. تمخضت محاولة الانقلاب الأخيرة عن قدر كبير من الجدل حول مستقبل تركيا، إذ تَركز معظم النقاش الجاري حول هذه القضية على شخصية الرئيس رجب طيب أردوغان والصراع بين أنصاره وخصومهم، غير أن فهم الوضع الراهن في تركيا والاتجاه المحتمل الذي سيسير فيه البلد مستقبلًا فهمًا حقيقيًّا يتطلب الابتعاد عن الأفراد والجماعات وتمحيص القوى الجغرافية السياسية الموضوعية التي تشكل سلوك البلد؛ ولهذا نحاول فهم تركيا بتمحيص الحتميات والقيود التي يواجهها البلد. أفردت مؤسسة «جيوبوليتيكال فيوتشرز» لتركيا في توقعاتها لسنة 2040، والتي تناولناها هنا في الملف السياسي سابقًا، مساحة كافية بوصفها قوة كبرى صاعدة، وتعتقد المؤسسة الأمريكية أن البلد سيُسقط قوته جنوبًا في الشرق الأوسط وغربًا في أوروبا وشمالًا في منطقة البحر الأسود. غير أن تركيا غارقة حاليًا في المشكلات على الصعيد الداخلي، وتواجه صعوبات على الجبهة الدولية، بل وكان الحال هكذا أصلًا قبل محاولة الانقلاب التي جرت في 15 يوليو. ومن ثم فالسؤال الذي يطرح نفسه كالتالي: ما الذي يمكن توقعه من تركيا في السنوات والعقود المقبلة؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال سنمحص حتميات تركيا في هذا التحليل، ونحتاج كذلك إلى إلقاء نظرة على القيود التي سيعمل في ظلها الأتراك. فبفهم حتميات البلد وقيوده، نستطيع التنبؤ بتطوره المستقبلي، وذلك بصرف النظر عن ماهية الشخصية أو الفصيل الذي يتربع على السلطة فيه. نعرّف الحتميات باعتبارها الأفعال التي يجب على الدولة القيام بها لكي تتمكن من البقاء والازدهار، وهي تنبع من تلاقي جغرافية هذه الدولة وديمغرافيتها ومواردها المتاحة. والحتمية الأساسية الأولى هي السيطرة على إقليم يمثل لب هذه الدولة وحكم هذا الإقليم، وبمجرد أن يتحقق هذا للدولة، ستلتفت عندئذ إلى حتميتها الثانية التي تخص العلاقات التي يجب أن تحتفظ بها مع الأطراف الفاعلة المجاورة لها والبعيدة عنها. غالبًا ما يتطلب تحقيق الحتميات زمنًا طويلًا، وسيحتاج أي بلد إلى قدر كبير من الوقت لكي يصل إلى حتميتيه الثانية والثالثة. وتجبر الاضطرابات المحلية والحروب والركود الاقتصادي بل والكوارث الطبيعية الأمم أحيانًا على التراجع عن سعيها إلى تحقيق الحتميات المتقدمة والتركيز على الحتميات الأساسية. وقد حددت «جيوبوليتيكال فيوتشرز» في حالة تركيا خمس حتميات نبينها فيما يلي. 1– توحيد التراب التركي تحت سلطة واحدة هذه هي الحتمية الأساسية الأولى التي يجب أن يحققها أي نظام تركي حاكم. فجميع الدول تنطوي على انقسامات داخلية تتمخض عن وجود فئات مختلفة على المستوى دون الوطني، لكن توجد في كل بلد منطقة تشكّل لبّ هذا البلد ولا بد له من السيطرة عليها، وتوجد به أيضًا منطقة محيطية أو أكثر يجب اخضاعها تحت راية نظام سياسي موحد. وتمثل منطقة مرمرة - التي تشمل إسطنبول - لب تركيا، وأما شبه جزيرة الأناضول فهي محيط تركيا الخارجي أو أطرافها. ومنذ تأسيس الجمهورية الحديثة، سكن هاتين المنطقتين أتراك أصحاب رؤى متعارضة. فالمنطقة الأولى، بثرائها وطابعها الكوزموبوليتاني، هيمن عليها أتراك ذوو توجهات غربية. وعلى النقيض من ذلك تمثل المنطقة الداخلية معقل الشرائح السكانية التقليدية والمحافظة. وعلى مدى عقود كثيرة سعى الكماليون (أتباع الأيديولوجية العلمانية المغالية التي نادى بها مؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك) الموجودون في القطاعين المدني والعسكري إلى توسيع قبضتهم فيما وراء لب البلد إلى أطرافه، لكنهم واجهوا مقاومة من المحافظين دينيًّا واجتماعيًّا الذين يرفضون تبني شكل متشدد من أشكال العلمانية. تمخض هذا الصراع عن انقلابات متعددة (في 1960 و1971 و1980 و1998 وأحدث محاولة فاشلة في 15 يوليو) بالإضافة إلى ظهور عدد من الأحزاب ذات التوجهات الدينية التي خرج من رحمها حزب العدالة والتنمية الحاكم. وتسعى الحكومة، تحت حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، إلى عكس ذلك، فيما تحاول نخبة محافظة جديدة توحيد المنطقتين تحت لواء علمانية أخف وطأة على الطراز الأمريكي تتيح للدين مساحة أكبر في المجتمع المدني. وعلى الرغم من أن الكماليين كانوا مستحكمين إلى حد كبير في أجهزة الدولة، ولا سيما في القطاع الأمني، لم يتمكنوا على الدوام من السيطرة على هيئات الجمهورية المنتخبة، لكن خصومهم تمكنوا من اختراق المؤسسة المدنية العسكرية في السنوات السبع أو الثماني الأخيرة. صحيح أن الكماليين اعتراهم ضعف، لكن «الديمقراطيين المسلمين» أتباع حزب العدالة والتنمية وأنصاره كانوا أيضًا محدودين في نموهم. وشهد المعسكر الأول انقسامًا حيال الاستمرارية الديمقراطية وما إذا كانت ينبغي أن تكون لها الأسبقية على الإنفاذ الصارم للعلمانية. ويمثل التنافس شديد المرارة بين حزب العدالة والتنمية وحركة حزمة التي يتزعمها فتح الله غولن الانقسام داخل المعسكر الثاني. النتيجة النهائية هي مشهد اجتماعي منقسم يفضي إلى وضع لا تخضع فيه مؤسسات الدولة لسلطة واحدة. وقد حالت هذه الانقسامات وغيرها بين القوميين الأتراك دون تعامل البلد مع قضية النزعة الانفصالية الكردية. وإذ نأخذ الديمغرافيا بعين الاعتبار، نقول إنه لا يمكن للأتراك القضاء على تهديد النزعة الانفصالية الكردية، بل وسيتطلب إضعاف هذه النزعة بشدة تناغمًا أكبر بين الأتراك. 2– ترسيخ استقلال الفعل سعيًا إلى تحقيق المصالح القومية التركية أظهر فشل انقلاب 15 يوليو تحقيق تقدم كبير في عهد حزب العدالة والتنمية صوب نظام ما بعد الكمالية، لكن الأتراك لا يستطيعون الانتظار لكي يحققوا الحتمية الأولى بالكامل قبل انتقالهم إلى الحتمية التالية؛ وذلك بسبب الفوضى المتزايدة في المنطقة التي زادت ضلوع القوى العالمية ووضعت ضغطًا على الأتراك، دون أن تترك لهم خيارًا إلا التصدي بقوة. لكن العقود التي قضتها تركيا في عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) والسعي إلى عضوية الاتحاد الأوروبي حدت من قدرتها على التصرف بشكل منفرد. وقد أخذ البلد في عهد حزب العدالة والتنمية يدفع في اتجاه أفعال أكثر استقلالًا على جبهة السياسة الخارجية، وهو يفعل هذا بإيجاد نقاط النفوذ في علاقاته مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، ولا سيما فيما يخص الحرب ضد تنظيم «داعش». ستحتاج تركيا إلى التصدي بقوة للضغوط الأمريكية، وتحقيقًا لهذه الغاية سيكون عليها تطوير نفوذ أكبر لدى الولاياتالمتحدة، على الرغم من أن هذا شيء تحده عضويتها في الناتو. وقد حاولت تركيا استغلال الانقلاب الفاشل لتعزيز قدرتها على تشكيل الإدراكات الأمريكية والسلوك الأمريكي، ويعتبر اتهام الولاياتالمتحدة بتأييد الانقلاب ومطالبة واشنطن بتسليم غولن جزءًا من هذا المجهود. وتعد مقاومة الاستراتيجية الأمريكية ضد «داعش» أكبر مثال على محاولة تركيا نيل استقلال الفعل. فلا تستطيع تركيا ببساطة أن تحذو حذو الولاياتالمتحدة في مجهوداتها الدولية لمحاربة «داعش». فالبلد لا يريد التورط بشدة في هذا الصراع، لكنه سيحتاج إلى أن يكون له صوت مسموع في كيفية مواصلة هذه الحرب. يعارض الأتراك بشدة الاعتماد الأمريكي على الأكراد السوريين كشركاء استراتيجيين على الأرض في سوريا. وعلى الرغم من أن تنظيم «داعش» يظل يمثل تهديدًا كبيرًا، تشكل النزعة الانفصالية الكردية تهديدًا أكبر حتى من هذا باعتبار أن تركيا تواجه عصيانًا محليًّا كبيرًا جنوب شرق البلاد حيث عجز البلد عن تهدئة الأوضاع. يعارض الأتراك أيضًا الضغط الأمريكي للتدخل في سوريا لأنهم يشعرون أن الولاياتالمتحدة تملك رفاهية العودة إلى الديار وأما هم فسوف يضطرون إلى التعامل مع عواقب الحرب ضد «داعش» زمنًا طويلًا جدًّا. وعلى صعيد مماثل، ستواصل تركيا عملها على تجنب التورط في الجهود الأمريكية والأوروبية ضد روسيا. فروسيا ليست مجرد جار يتمتع بنفوذ عظيم على خاصرة تركيا الشمالية، إذ تعتمد أنقرة على موسكو لإمدادها بنصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي؛ ولهذا فإن الأتراك أقل حماسًا تجاه مشروع «ما بين البحرين» (تحالف بين البلدان الواقعة بين بحر البلطيق والبحر الأسود) من بعض الأمم الأوروبية الشرقية. هذا لا يعني أن الأتراك لا يواجهون مشكلات مع الروس بل يعني أن أنقرة تريد إعطاء أولوية لمصالحها القومية - لا لحاجات واشنطن- في علاقاتها مع موسكو. تمثل إيران معضلة أساسية أخرى لا يستطيع الأتراك ببساطة السير فيها على خطى الولاياتالمتحدة. والإيرانيون أهم منافسين للأتراك في الشرق الأوسط، لذا سيكون لزامًا على الأتراك التعامل معهم بطريقة معقدة. فستعمل تركيا من أجل التوصل إلى تفاهم مع إيران، ولا سيما باعتبار أن هذه الأخيرة تتمتع بنفوذ كبير في سورياوالعراق؛ لذا ظل الأتراك يدفعون في اتجاه التوصل إلى تسوية بالتفاوض للقضية النووية الإيرانية. تنظر تركيا إلى عدم استعداد الولاياتالمتحدة لتخفيف العقوبات المفروضة على إيران بعد أن احترمت إيران الشق الخاص بها من الصفقة باعتباره ضارًّا بالمصالح التركية، ولا يريد الأتراك أن يثأر الإيرانيون بزيادة تعقيد الأمور في العراقوسوريا. فأنقرة تعرف أنها لا تستطيع التعامل مع سوريا إلا إذا توصلت إلى تفاهم مع طهران، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، يجب أن يتصدى الأتراك بقوة للولايات المتحدة. 3– الدفاع عن تراب الوطن ضد التهديدات الخارجية كلما ازدادت قدرة الأتراك على كسب القدرة على الفعل بشكل مستقل على نحو يصب في مصلحتهم القومية، ازدادوا قدرة على الدفاع عن أنفسهم ضد التهديدات النابعة من الخارج والتي تمثل الحتمية التالية. إن العلاقات الوثيقة مع أوروبا، ومشكلات الاتحاد الأوروبي، وضعف روسيا، كلها تعني أن تركيا لا تواجه تهديدات فورية من الغرب أو الشمال. وأما القوى الخارجية التي تشكل التهديد الأشد إلحاحًا للأمن التركي فتنبع من الجنوب. نظرًا للصراع المعقد الذي يتشعب من سوريا، تواجه تركيا عددًا من التحديات النابعة من الشرق الأوسط. وفي المقام الأول يجب أن تمنع تركيا الأكراد السوريين من استغلال الصراع لإقامة كردستان في سوريا. نتيجة للعلاقات الوثيقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا وحزب العمال الكردستاني في تركيا يمثل أكراد سوريا تهديدًا كبيرًا للأمن الداخلي في تركيا، ولهذا السبب تردد الأتراك في ملاحقة «داعش»، مما يُبقي بشكل غير مباشر على الضغط على الأكراد السوريين. غير أن تركيا يجب أن تفعل شيئًا حيال «داعش» لأن الأجندة الراديكالية التي يتبناها التنظيم للمنطقة تهدد الأمن القومي التركي وتجلب المزيد من الضغط الدولي على أنقرة، لذا ستعمل أنقرة على انتهاج استراتيجية لتحييد «داعش» من دون تمكين الأكراد السوريين في غضون ذلك. على الرغم من ضرورة لجم «داعش»، لا يمكن رؤية تركيا باعتبارها تعمل نيابة عن الولاياتالمتحدة، بل ستسعى بالأحرى إلى مواجهة التنظيم على نحو لا يقوض مصداقيتها كقوة إسلامية كبرى. فبما أن تركيا تتنافس على زعامة المنطقة والعالم الإسلامي السني بمعناه الأوسع، يجب أن يراها المسلمون كقوة ذات مصداقية. وسيعارض كثير من العرب الهيمنة التركية لأنها تعيد إلى الأذهان ذكريات الإمبريالية العثمانية. لهذا السبب ظلت تركيا تدفع في اتجاه إطاحة نظام بشار الأسد، مما يمنحها نفوذًا بين الجماعات المتمردة السنية وكذلك داخل العالم العربي/ الإسلامي السني بمعناه الأوسع. لكن الأتراك لا يغيب عن بالهم مخاطر حدوث انهيار مفاجئ للنظام السوري، ولهذا سيضغطون في اتجاه التوصل إلى تسوية بالتفاوض بين النظام (من دون الأسد) والمتمردين. فتركيا تخاطر بحدوث زعزعة كبيرة للاستقرار لو حدث انهيار مفاجئ للنظام، وهذه هي النقطة التي تتعارض فيها مصالح تركيا مع مصالح اخرين. ومع ذلك تمثل إيران أيضًا عقبة كبيرة في وجه تركيا. ففي تناقض حاد مع الحقبة العثمانية التي سيطر فيها الأتراك على الشام وبلاد الرافدين ووقفوا حائلًا أمام الفرس، يستطيع الإيرانيون اليوم منع تركيا من تشكيل هذه المناطق، إذ يحول نفوذ إيران في الدولتين العربيتين اللتين تشتركان في الحدود مع تركيا دون إسقاط تركيا قوتها على تخومها الجنوبية؛ ومن ثم ستعمل تركيا لكسب نفوذ في كلا البلدين لدحر النفوذ الإيراني. وستعمل لتحسين موقف المتمردين السوريين في ساحة المعركة، مما يعني محاربة تنظيم «داعش» وخلافته، ونظام الأسد، والأكراد السوريين. أما في العراق فسوف تساند تركيا حكومة كردستان الإقليمية للتصدي للحكومة المركزية التي يهيمن عليها الشيعة والموالية لإيران، وستفعل أنقرة هذا على نحو يُبقي على اعتماد حكومة كردستان الإقليمية على أنقرة لتفادي تأجيج النزعة الانفصالية الكردية. وستعمل تركيا أيضًا مع سُنة العراق لكنها تواجه تحديين. أولًا: ضرورة كسر سيطرة «داعش» على الأراضي السنية في العراق لإحياء موقف عموم السنة الذين تمزقهم الانقسامات المريرة. ثانيًا: ضرورة تعامل تركيا مع النزاع الإثني «الكردي السني» الذي يعتبر من نواح كثيرة أخطر من الصراع «الشيعي السني». فمنذ سنوات والأكراد يتعدون على الأراضي السنية، ولا سيما بعد أن استولى تنظيم «داعش» على الموصل. ويرتبط هذا النزاع أيضًا بالرغبة السنية في السيطرة على موارد الطاقة. ومن أجل التصدي لإيران، التي تتصرف إلى حد كبير من خلال الطائفة السنية، سيحتاج الأتراك إلى العمل مع هاتين الأقليتين، وبالتالي فمنع إيران من كسب اليد العليا في سورياوالعراق هو السبيل إلى تحقيق الحتمية التركية الثالثة. على الرغم من أن إيران تشكل تحديًا كبيرًا أمام تركيا على المدى القريب، نجد إيران محدودة على المدى البعيد من واقع الجغرافيا ومن واقع أن تركيا أقوى منها كثيرًا، سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا. 4– تهدئة الأوضاع في العالم العربي الحتميات الثلاث الأولى كلها أشياء تتعامل معها تركيا في الوقت الراهن. ويعتبر الانقلاب مثالًا واضحًا على الأسباب التي تدعو تركيا إلى توطيد سلطة الحكومة المطلقة على البلد، وأما الحرب النشطة مع الأكراد في جنوب شرق البلاد فهي مثال آخر. تعمل تركيا على الموازنة بين الولاياتالمتحدةوروسيا في معرض سعيها إلى تأمين بعض استقلال الفعل فيما يخص شؤونها الخارجية. وتتطلب القضايا الماثلة على حدودها الجنوبية في سورياوالعراق اهتمامًا فوريًّا. غير أن توقعات «جيوبوليتيكال فيوتشرز» بعيدة المدى لتركيا تتجاوز حدود الواقع الراهن، حيث تتوقع أن تبرز تركيا كقوة إقليمية بحلول عام 2040. لن تفعل تركيا هذا بإرادتها، فهذه حتميات استراتيجية لا توجيهات سياسة خارجية وتصف التحديات التي نتوقع أن تواجهها تركيا. نرى بأعيننا الآن مناطق الشرق الأوسط وأوروبا والاتحاد السوفيتي السابق تشهد صورًا مختلفة من التفتت والصراع، وتتوقع المؤسسة الأمريكية استمرار كلتا هاتين العمليتين. فسوف تشتد هذه الأزمات وتخلق فراغات في القوة، ولن تجد تركيا خيارًا إلا تأكيد نفسها وسد بعض هذه الفجوات، وستنجذب تركيا يومًا بعد يوم إلى الخروج من ذاتها. ومن المتوقع أن يكون أول مكان يتجلى فيه هذا هو إحلال الاستقرار بعد الفوضى في العالم العربي. فالتهديدات المحتملة التي تواجه الاستقرار والنابعة من العالم العربي، سواء أكان تنظيم «داعش» أو كيانا آخر لا نعرفه بعد، ستجبر تركيا على الفعل وإنْ على مضض. 5– التوسع في المناطق متزايدة الضعف في الشمال والغرب والشرق سيكون العالم العربي القضية الأكثر إلحاحًا في مواجهة تركيا والقضية التي نتوقع ضرورة تصدي تركيا لها بحلول عام 2040. فهذا العالم مفتت . وبمرور الوقت سيشكل التفتت الذي تشهده أوروبا وروسيا أيضًا تحديات جديدة أمام تركيا. ستبدأ تركيا، بدرجات متفاوتة، في إسقاط نفوذها وقوتها في الكثير من المناطق التي كانت تهيمن عليها الإمبراطورية العثمانية ذات يوم، وستشمل هذه المناطق، بدرجات متفاوتة، جنوب شرق أوروبا، وشرق البحر المتوسط، ومنطقة البحر الأسود، والقوقاز. وهذا أجل بعيد مستقبلًا ويتجاوز حدود توقعات المؤسسة الأمريكية وصولًا إلى عام 2040. لكن هذه الحتمية ما زالت موجودة ومن المهم أن نضعها في الاعتبار عند الحديث عن رؤية بعيدة المدى لمستقبل تركيا. خاتمة تمثل تركيا في الوقت الراهن عنصرًا حاسم الأهمية في استراتيجية الولاياتالمتحدة للتعامل مع تهديد «داعش»، والفوضى الجارية في سوريا، والمنطقة بشكل أعم. كما يعتبر البلد أيضًا مكونًا أساسيًّا في الخطط الأمريكية لإنشاء تحالف «ما بين البحرين» كطريقة للتصدي لروسيا على امتداد حدود الكرملين الغربية. غير أن أنقرة بدأت تقاوم واشنطن؛ لأن كلا المشروعين ينطوي على مخاطر تواجه الأمن القومي التركي، وأسفرا عن خلافات خطيرة مع الأمريكيين. تدهورت الأوضاع بسرعة على خاصرة تركياالجنوبية على وجه التحديد في ظل تهديدات متنامية من الحركة الجهادية والنزعة الانفصالية الكردية. وفوق ذلك تحطمت الآمال التركية في إطاحة النظام السوري عندما اكتسبت قوات الأسد اليد العليا في مواجهة المتمردين. وقد لعب التدخل العسكري الروسي في سوريا - وإنْ كان محدودًا في نطاقه - دورًا أساسيًّا في تمكين دمشق من اتخاذ زمام المبادرة في الهجوم، مما وضع تركيا في صراع مع روسيا، وهو الصراع الذي احتدم عندما أسقطت تركيا طائرة حربية روسية على حدودها مع سوريا في نوفمبر الماضي. وجد الأتراك أنفسهم بالتالي على طرف نقيض مع الأمريكيين والروس في آن واحد، ولم تقدر أنقرة على تحمل انخراطها في صراع مع كليهما؛ لذا سعت خلال الشهرين الماضيين إلى إصلاح علاقاتها مع واشنطنوموسكو. ففي 5 مايو الماضي أعفى أردوغان رئيس وزرائه أحمد داود أوغلو من منصبه وكانت واشنطن تراه عقبة في طريق تعاون أمريكي تركي أوثق إزاء «داعش». وفي يونيو اتفقت تركيا وإسرائيل من حيث المبدأ على مصالحة دبلوماسية، وهو انصياع آخر لرغبات واشنطن. ثم في 27 يونيو قدم أردوغان اعتذارًا كتابيًّا إلى نظيره الروسي الرئيس فلاديمير بوتين عن إسقاط الطائرة الحربية الروسية. توصل الأتراك إلى تفاهم مع الأمريكيين بخصوص المخاوف التركية واحتمال أن يؤدي القتال ضد «داعش» إلى تمكين الأكراد في سوريا. فقد أعلن أردوغان وكبار معاونيه في مطلع يونيو عن تلقيهم تطمينات من إدارة باراك أوباما تفيد بأن مجهودات محاربة «داعش» لن تؤدي إلى تمكين الأكراد في سوريا. وكانت زيادة تركيا انخراطها في سوريا تعني اضطرارها إلى التعامل مع روسيا، وهو ما يفسر رغبتها في إصلاح العلاقات مع موسكو. بدت تركيا أخيرًا على المسار نحو لعب دور كبير في سوريا، وذلك اتساقًا مع الاستراتيجية الأمريكية للمنطقة، ثم جاءت محاولة الانقلاب في 15 يوليو. ويظهر هذا الانقلاب الفاشل أن تركيا تعاني من مشكلة أعمق كثيرًا. فالقضية ليست بين المدنيين والجيش، بل إن الجيش التركي مفتت داخليًّا بفعل الرؤى المختلفة حيال ما ينبغي أن تكون عليه علاقته مع الحكومة. فعلى أحد الجانبين يوجد القادة والضباط الكماليون أتباع الحرس القديم الذين لم يقبلوا خضوع القوات المسلحة للحكومة المنتخبة. وعلى الجانب الآخر توجد سلالة جديدة من العسكريين الذين ربما لا يتفقون مع المدنيين لكنهم يشعرون أن التدخل العسكري في شؤون الحكم شيء من الماضي. على الرغم من حقيقة أن حزب العدالة والتنمية شهد حكمًا ديمقراطيًّا غير منقطع منذ عام 2002، لم تتمكن تركيا من التغلب على الانقسام بين المدني والعسكري الذي ابتُلي به البلد منذ زمن طويل، بل العكس هو الصحيح، إذ أدت محاولات توطيد الهيمنة المدنية على الجيش إلى تفاقم الأمور بتسببها في شروخ داخل القوات المسلحة. وتحاول الحكومة استعادة التلاحم الداخلي بتطهير القطاعين العسكري والمدني (بما في ذلك السلطة القضائية) من الأشخاص الذين ربما كان لهم ضلع في الانقلاب. ولا ريب أن هذه العملية ستستغرق وقتًا. لكن هذه الحتميات توفر خارطة طريق طويلة الأمد للتحديات التي تواجهها تركيا، وما كانت لتختلف لو لم تحدث محاولة الانقلاب أصلًا. حزب العدالة والتنمية شهد حكمًا ديمقراطيًّا غير منقطع منذ عام 2002