هناك من قدح في نسب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» ذائع الصيت إلى مؤلفه علي عبد الرازق وقال إنه شركة بينه وبين طه حسين. وقد فجعني الدكتور محمد عمارة ذات يوم حين أطلق هذا الحكم القاسي في ندوة في مكتبة الإسكندرية، وراح يدافع عن وجهة نظره هذه مستنداً إلى واقعة لا دليل دامغاً عليها تقول إن عبد الرازق أسرّ في آخر أيامه بهذا الأمر إلى إمام مسجد في إحدى قرى المنيا، مسقط رأس عبد الرازق، وقال له إن «طه حسين دسَّ الكتاب عليّ». لكن من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يكون طه حسين هو المؤلف الحقيقي للكتاب لأسباب منها أن الأسلوب أو بنية الجملة في الكتاب تختلف تماماً عن أسلوب حسين الذي كان يحمل سمات شفاهية ظاهرة نظراً لأنه كان يملي كتبه ولا يخُطها، وهذه مسألة لا نعثر عليها إطلاقاً في طريقة وأسلوب علي عبد الرازق الذي نألفه في كتبه وأبحاثه الأخرى. كما أن طه حسين الذي كان معروفاً بالشجاعة والاعتداد بالرأي، لم يكن في حاجة إلى التخفي وراء أحد ليطلق أفكاره، وفي الوقت نفسه كان عبد الرازق مكتمل القيمة والقامة الفكرية معتداً برأيه، ولم يكن يقبل أن يكتب له أحد أو ينتحل ما أنتجه غيره من معرفة وأفكار. علاوة على ذلك فإن المقدمة التي كتبها نجل عبد الرازق السفير محمود عبد الرازق للطبعة التي صدرت عن دار «الهلال» قبل سنوات قليلة، أكدت أن الرجل ظل معتداً بما كتب حتى وافته المنية، وإن كان هناك من يذكر أنه تراجع فقط عن اعتقاده بأن الإسلام مسألة روحية فحسب، واعترف أنه ينطوي على تشريعات وقوانين ضابطة لا يمكن أن ينكرها إلا جاهل أو متنطع. ويسعى دوماً إلى تشويه الأفكار التي يختلف معها بالطعن في أصالتها والتقليل من قدرات صاحبها، وحدث الأمر نفسه مع قاسم أمين حين قال البعض إن كتابه «تحرير المرأة» من تأليف الإمام محمد عبده، كما حدث مع طه حسين أيضاً حين قدح أعداؤه في كتابه «في الشعر الجاهلي» وقالوا إنه من وضع المستشرق البريطاني ديفيد صمويل مرغليوث. وربما وقع هذا اللبس أو أراد البعض أن يكيد إلى طه حسين نفسه لأنه دافع دفاعاً مستميتاً وظاهراً على رؤوس الأشهاد عن عبد الرازق، قائلاً: لقد تألب رجال في الأزهر والأزهر شيء والدين شيء آخر على الرجل فأخرجوه من زمرتهم. أليس هذا خليقاً بأن يهنأ به علي؟ بلى، وماذا يضر علياً أن يخرج من زمرة علماء الأزهر وماذا ينفع علياً أن يبقى في زمرة علماء الأزهر؟... إيه أيها الطريد من الأزهر، تعال نتحدث ضاحكين عن هذه القصة المضحكة، قصة كتابك والحكم عليه وعليك وطردك من الأزهر، ما بال رجال الأزهر لم يقضوا على كتابك بالتحريق، وقد كان يلزمنا أن نرى نسخة تجمع في صحن الأزهر أو أمام باب المزينين. دعنا نتحدث في حرية، ولا تكن أزهرياً فقد أخرجت من الأزهر، نعم سنضحك منك ومن كتابك، وسنضحك من الأزهر ومن الذين أخرجوك منه، ماذا قلت في هذا الكتاب؟ قلت إن الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام، فهلا أكملت البحث وأتممت النظرية، فالخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام وإنما هي أصل من أصول الفقه الروماني... سترى أن الخلافة عند المسلمين ليست إلا مناصب الإمبراطورية الرومانية وأن الخليفة ليس إلا إمبراطوراً، وأن مناصب الحكم عند المسلمين ليست إلا مناصب الحكم عند الرومانيين. تعال نضحك فقد كان كتابك مصدراً لتغيير الأرثوذكسية في الإسلام، ولست أنت الذي غيَرها أيها الطريد المسكين، وإنما غيَرها الذين طردوك وأخرجوك من الأزهر. وقد كنا نعلم أن القاهرة مركز أهل السنة وموطن الأشاعرة ومستقر الأرثوذكسية الإسلامية. ثم ما هذه الهيئة التي أخرجتك من الأزهر وما سلطتها الدينية؟ هي أثر من آثار الاستبداد أنشأها عباس يوم كان يريد أن يستهوي، ويوم كان يريد أن يكيد، وهي أثر من آثار الاستبداد لا يليق بعصر فؤاد مصدر الدستور». لكن طه حسين لم يكن الوحيد الذي دافع عن عبد الرازق، بل إن عباس العقاد كان واحداً من غالبية أصوات حزب الوفد التي وقفت موقفاً مشرفاً، وسجلت صفحة مشرفة في تاريخ الحركة الثقافية والسياسية في هذه المعركة الفكرية. فرغم العداء الشديد، والصراع الحزبي، الذي كان بين الوفد وبين الأحرار الدستوريين، الذين ينتمي إليهم علي عبدالرازق، ويحسب عليهم، إلا أن معظم الأصوات التي ارتفعت في صحافة الوفد يومئذ وقفت إلى جوار الانتصار لحرية الرأي وحق عبد الرازق في التفكير والتعبير، ولقد رأوا في محاكمته والحكم عليه مسألة سياسية نسجت خيوطها أصابع السراي، التي تعبث بالدستور، لا مسألة دينية، كما حاول أن يصورها الذين أيدوا المحاكمة، وما ترتب عليها من إجراءات. إن الدكتور عمارة نفسه لم يخف تعاطفه الخفي والنسبي مع عبد الرازق، أو على الأقل الاعتراف بقيمة كتابه، ولهذا سجل إعجابه بالنتيجة النهائية التي ترتبت على الكتاب وعلى المعركة الفكرية التي دارت حوله وهي تبديد حلم الملك فؤاد في أن يصبح خليفة للمسلمين ومعه رغبة الإنكليز في حدوث هذا. ومع أن عمارة يصف دراسة الشيخ الخضر حسين التي قدم فيها ردوداً عميقة على كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، بأنها «أمسكت بتلابيب علي عبد الرازق، في عدد من المواقف الفكرية، وفندت عدداً غير قليل من آرائه، وقدمت إلى الناس صورة أكثر إنصافاً لكثير من الصفحات التي شابتها الشوائب من الكتاب»، إلا أنه يأخذ على الرجل تسخير دراسته تلك لخدمة جبهة الملك الساعي إلى «الخلافة» ضد خصومه الذين يرى بعضهم أنه لا يليق بها، بينما ذهب آخرون إلى أن الخلافة ذاتها لا تمثل نظام الحكم الإسلامي. وهنا يقول عمارة: «نحن لا نستطيع أن نغفل هذه الشوائب القاتلة، التي شابت هذه الدراسة العلمية الجادة، ولا أن نقبل التعلل بظروف العصر، لأن هذا العصر ذاته كان فيه النقيض لمثل هذا الموقف من الملك والملكية، ولن يستوي الأبيض والأسود، بأي حال من الأحوال، مهما كانت الظروف والملابسات». ويحدد عمارة انتقاداته في أن الكتاب تشوبه عيوب عدة، منها التناقض في تقييم التجربة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعما إذا كانت روحانية خالصة أم مزيجاً من السياسي والروحي، وكذلك التناقض في تقييم التجربة التي لحقت الرسول بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وفساد الاستدلال، نظراً لأن عبدالرازق يستشهد بما لا يفيد قضيته، إن وضع استشهاده موضع التدقيق، إلى جانب إهمال عبد الرازق للجوانب المشرقة في الفكر الإسلامي، لأنه خلط بين «النظري» و «التطبيقي» وبين «النص» و «الممارسة»، أو بين «الفكر» و «التاريخ». ومع كل هذا ينتهي عمارة إلى القول: «نعتقد أن كل هذه الانتقادات لا تقدح في قيمة الكتاب وأهميته، كعمل فكري أثار من الجدل والصراع والمعارك ما لم يثره عمل فكري آخر في بلادنا، منذ أن عرفت الكتاب المطبوع وحتى الآن». وفي ظني أن الردود كافة التي تصدت لعبد الرازق لم تأت على حجية الكتاب وأهميته، وانتصار الزمن له، مع تنامي الاتجاه إلى أن الإسلام يقر مدنية الحكم، ولا يعرف الثيوقراطية من قريب أو بعيد. فالفكرة الأساسية للكتاب تقول إن الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام، وإنما هي مسألة دنيوية وسياسية أكثر منها دينية، وأن القرآن الكريم والحديث النبوي لم يوردا ما يبين، من قريب أو بعيد، كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه، وذلك لأن هذا التنظيم «اختراع بشري»، أو «اجتهاد» من قبل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، لجأوا إليه ليحافظوا على تماسك الجماعة المسلمة بعد وفاة النبي. ثم اعتبر عبد الرازق الخلافة «نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر فاسد»، وراح يسرد من معطيات التاريخ ما يبرهن على هذا الرأي الصادم في وقتها. لقد مر نحو ستة وثمانين سنة على صدور هذا الكتاب، صغير الحجم، مركَز الفكرة، والمفعم بالشجاعة، والمثير للجدل، والذي فتح الباب لكتب أخرى نبتت على ضفافه، إما رداً عليه قدحاً، أو مساندته مدحاً، وإما معالجة فكرته الجوهرية، ومقصده الذي لم يخطئه صاحبه. وفي تقديري فإن الأهم من الجدل العقيم حول نسبة الكتاب إلى عبد الرازق من عدمه، هو التركيز على الأفكار التي طرحها، والتي لا تزال مهمة وحيوية وقابلة للنقاش في ظل عدم قدرتنا حتى هذه اللحظة على حسم معضلة الخلط بين الدين والدولة في الإسلام. وحين كنت أطالع كتاب «الإسلام وأصول الحكم» سجلت على هوامشه بعض الملاحظات العامة، التي استقرت في يقيني، وهي لا تقتصر على مادة الكتاب فقط، بل تتسع لتطوق الملابسات التي أحاطت به، والمنهج الذي اتبعه صاحبه في صياغة مضمون كتابه. ويمكن سرد هذه الملاحظات على النحو التالي: 1 - اتبع علي عبد الرازق في كتابه المنهج الذي كان سائداً عند فقهاء المسلمين وكُتَاب السير، والذين استفادوا من طريقة القرآن الكريم في عرض حجج المشككين فيه وفي الإيمان وفي وجود الله سبحانه وتعالى ثم دحضها. فعبد الرازق كان يعرض ما يتوقع أن يقوله خصومه حول ما جاء في كتابه، ثم يتولى الرد عليه تباعاً. 2 - من يمعن النظر في تفاصيل معركة كتاب «الإسلام وأصول الحكم» وأطرافها، ربما يجد تحققاً عملياً لبعض ما جاء في الكتاب ذاته. فالسياسة طغت على الدين، عبر استغلال المتنافسين في حلبتها الضارية لمادة الكتاب بغية تحقيق مآرب أبعد ما تكون عن مسائل العقيدة والعبادة. وهذا الأمر كان من الأسباب الرئيسية التي دعت علي عبد الرازق إلى رفض الربط بين الإسلام والسلطة السياسية. 3 - لم ينج علي عبد الرازق من الوقوع في خطأ متكرر عند كثيرين وهو اتخاذ الممارسة التاريخية حجة على النص. فالنص يعرض المثل العليا، والممارسة تجسد الواقع، ودوما هناك فجوة بين الاثنين، تتسع وتضيق، وتتقارب وتتباعد، لكن زلات التطبيق لا تعني أن النص به خلل، وهذه مسألة تنسحب على قضايا كثيرة حفل بها النص الإسلامي المؤسس وهو القرآن الكريم، ومنها عدالة الحكم، بغض النظر عن عدم وجود تفاصيل تحدد هيكل الحكم ونوعه ومساره تحديداً صارماً. في الوقت نفسه يجب ألا تبنى الاستدلالات على إعطاء كل ما عدا القرآن حجية هذا الكتاب المنزَل. فالفقه والتفسير هما منتج بشري، والصحيح من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقع في درجة أدنى من القرآن، وإن تعارض معه فلا يلزم أحداً. 4 - يجب إعادة التفكير في مسألة ربط الإسلام كدين بقيام دولة تعبر عنه تعبيراً محدداً، وتسهر على حراسته. فالإسلام انتشر في أفريقيا من دون دولة، إنما عبر جهود مشايخ الطرق الصوفية والتجار، ووصل إلى أصقاع في آسيا بالطريقة ذاتها، وهو الآن يتمدد في أوروبا إلى درجة أن 63 شخصاً يعلنون إسلامهم كل يوم، حسب إحصاء مكتب الهجرة الأوروبي في النمسا، من دون أن يكون هناك إطار سياسي أو سلطوي يساعد هذا التمدد أو يحرسه. 5 - حين نتعرض لطبيعة دور الرسول صلى الله عليه وسلم علينا أن نفرق بين «القيادة» و «الرئاسة»، فالأولى ذات طبيعة اجتماعية، وهي تتأسس على سمات وصفات لدى شخص تلقى قبولاً عند الجماعة التي ينتمي إليها، فيخلعون عليه مهابة واحتراماً وحباً، من دون أي تقيد رسمي حياله، ولا سلطة رسمية له عليهم. أما الثانية فذات منحى رسمي، يرتبط وجودها بوجود منصب، ولا يحظى من يشغله بالضرورة حباً واحتراماً ومهابة. وليس له من طاعة على الناس إلا بمقتضى ما يوفره له المنصب من صلاحيات. * كاتب مصري