فتحت مجزرة نيس الباب لتقييم ما هو الإرهاب الإسلامي. محمد لحويج بو هلال مسلم ولكنه لم يكن إسلامياً ولا متطرفاً. بل عكس ذلك. أصدقاؤه ومعارفه يجمعون على أن بو هلال لم يكن يصلي، وكان يدخن ويشرب الخمرة ويأكل لحم الخنزير ويرقص مع النساء ويلاحقهن. وقال أحد الذين يترددون على الجامع في حيّه في شكل منتظم أنه لم ير بوهلال يوماً هناك. في المقابل، كل هؤلاء يجمعون على أنه كان مضطرباً نفسياً إلى حد كبير، إذ كان يعتدي بالضرب على زوجته وأولاده. وكثيراً ما كان يفقد أعصابه فيكسر كل ما يجده أمامه وصولاً إلى تقطيع دمية ابنته. طردته زوجته من المنزل ولم تعد لا هي ولا أولاده يريدون رؤيته، فقرر العودة إلى تونسمسقط رأسه. سجلّه لدى الأمن الفرنسي يحتوي على حوادث تهديد للآخرين وعنف وسرقة وتخريب، ولكن ليس فيه أي إشارة إلى التطرف، وفق قول المدعي العام في قضايا الإرهاب في فرنسا فرنسوا مولان. على رغم هذه الصفات لشخصية بو هلال المعروفة للأمن الفرنسي، أصر رئيس الوزراء مانويل فالس، منذ الساعات الأولى، على أن بوهلال إرهابي إسلامي متطرف و»أنه متصل على الأغلب بالإسلام المتطرف بطريقة أو أخرى». ويقول فالس في تصريح له في صحيفة فرنسية، كما ورد في الحياة (18 يوليو- تموز): «إن التحقيق سيثبت الحقائق ولكننا نعرف الآن أن القاتل تحوّل إلى التطرف بسرعة كبيرة. إن إعلان الدولة الإسلامية مسؤوليتها صباح السبت والتطرف السريع للقاتل، يؤكدان الطبيعة الإسلامية لهذا الهجوم». التحول إلى التطرف الإسلامي وتبنّي نظرة داعش للإسلام، إذا كانا قد حصلا، فطبعاً بسرعة فائقة إذ إن بوهلال كان يشرب الخمرة خلال شهر رمضان الفائت، بشهادة جيرانه، والشهر الفضيل انتهى في 5 تموز، وحادث نيس حصل في 14 من الشهر نفسه، ما يعني أن بوهلال غيّر عاداته المتعارضة مع الدين، واعتنق الأصول الدينية الداعشية المتشددة، وحضّر ونفّذ عمليته، كل ذلك في أيام قليلة. هذا طبعاً «تحوّل إلى التطرف بسرعة كبيرة». بصرف النظر عن تصريحات فالس المعروف بعدائه للمسلمين، أصبح من الواضح أن بوهلال كان «ثائراً» يبحث عن قضية. رجل مضطرب عقلياً، يائس عائلياً واجتماعياً، يريد أن يقوم بعمل مثير، يبحث عن قضية يبرر فيها عمله. خلال الأسبوعين اللذين سبقا هجمته، كان يبحث في حاسوبه عن آيات قرآنية، وقد ملأ الحاسوب بصور مقاتلي «داعش» وأعلام التنظيم، وفي الوقت نفسه بصور قادة «القاعدة»، عدوّ تنظيم الدولة، أمثال أسامة بن لادن ومختار بن مختار. يشبه في هذا المجال الرجل المضطرب عقلياً الذي سحق 13 شخصاً بسيارته في مدينة ديجون الفرنسية عام 2014 وهو مخمور يصرخ «ألله وأكبر». وقد استنتج التحقيق يومها أن الشخص كان مختلاً عقلياُ ودوافعه غير متماسكة. يقول أحد المسؤولين الأميركيين السابقين في مجال الإرهاب، وهو أستاذ في جامعة دارتموث، إن «داعش» و»الجهاد» «أصبحا نوعاً من الملجأ لبعض الأشخاص المضطربين اليائسين الذين قرروا أن يفتدوا حياتهم المفككة من خلال إنهائها في سبيل قضية». وبالتالي، لو لم يكن هناك «داعش» لكان هناك مراجع أخرى يتعلق بها الثائرون الباحثون عن قضية. ما يعني أن القضاء على داعش لن ينهي عمليات الإرهاب. واللافت أن الحل المعتمد، كما حصل في فرنسا بعد حادث نيس، هو في تمديد حالة الطوارئ، وزيادة عديد الشرطة وتكثيف الغارات على «داعش» في سورية، أي الحل الأمني. في بعض الأدبيات التي ظهرت بعد حادث نيس، بخاصة في الصحف الغربية، هناك من فرّق بين «البوهلاليين» والإرهابيين الذين يعملون في شكل مباشر مع «داعش»، أي الذين على اتصال بقادته ويأتمرون مباشرة بهم. ولكن إذا تمعنّا في الأمر، لجهة السياسات الناجعة لمحاربة التنظيم، نسأل ما حقيقة الفارق بين ثائر يبحث عن قضية وثائر وجد القضية؟ كلاهما قد يكون مضطرباً عقلياً. أو كلاهما قد يكون ثائراً على ظلم حصل له، كالذين يخرجون من سجون التعذيب الأميركية أمثال أبو بكر البغدادي وبعض رفاقه، أو لأسرته نتيجة «الأضرار الجانبية» التي يخلفها القصف من طائرات كتلك التي من دون طيار. أو كلاهما قد يكون ثائراً ضد ظلم حصل لبيئته أو لشعبه. كلاهما وجدا الحل في الالتحاق بتنظيم متطرف ودخلا في دوامة الإرهاب. لذلك نرى أن هزيمة مجموعة هنا يتزامن مع ولادة مجموعة أخرى هناك، وأن الإرهاب أصبح حقيقة يجب التعايش معها كما قال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، إلا إذا عملنا على ابتكار سياسات تتعدى قوة السلاح إلى النظر في أسباب كل من هذه الحالات ومحاولة معالجتها. عدم الاندماج جميع الإرهابيين الذين يقتلون الأبرياء والأطفال أمثال بو هلال ضالون، ولكن ليس كلهم مختلين عقلياً. إرهابيو «شارلي إبدو» في باريس في كانون الثاني (يناير) 2015، وعملية مسرح «باتاكلان» في تشرين الثاني (نوفمبر) من السنة نفسها، معظمهم من الفرنسيين المسلمين والأفارقة من الجيل الثاني أو الثالث، لم يتم دمجهم في المجتمع الفرنسي بعد كل هذه السنين، يعيشون في ضواحي باريس الفقيرة حيث المساكن متآكلة، ونسبة الجريمة مرتفعة، والبطالة تبلغ ضعفَي مستواها في البلاد تقريباً (40 في المئة بين الشباب)، وقد أصبحت أحياؤهم «مجمعات فقر وفصل اجتماعي» وفق مجلة «ذي إيكونومست» البريطانية. والحال أن إنماء هذه المناطق، الصغيرة قياساً بجغرافيا فرنسا واقتصادها، ليس أمراً مستحيلاً ولا حتى أمراً صعباً لولا الإهمال على مَرّ السنين الذي تسانده العنصرية الرسمية. وبالتالي، قوة السلاح وحدها لن تحل المشكلة. الإرهاب الذي نشهده في أميركا هذه الأيام، بالتحديد في ولايتي فلوريدا وتكساس، المتمثل بقتل أفراد الشرطة، له جذور تاريخية لم تستطع أميركا وعظمتها أن تتعامل معها بالإيجابية الكافية، على رغم مئات السنين من المحاولة، إذ ما زال السود مواطنين من الدرجة الثانية، يعيش معظمهم في منازل مهترئة، ومستوى البطالة في صفوفهم هو ضعفا المستوى الوطني، ومعدل الدخل عندهم يوازي أقل من 40 في المئة من دخل البيض الأميركيين. وفي فيديو سجله قاتل الشرطيين في فلوريدا قبل اقتراف جريمته قال: «إن مئة في المئة من الثورات، ثورات الضحايا على ظالميهم، نجحت من خلال المقاومة، من خلال سفك الدماء. صفر في المئة نجح من خلال الاحتجاجات فقط. هذه الطريقة لم ولن تنجح أبداً. عليك أن تقاتل. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعل هذا البلطجي يتوقف». في هذه الحال أيضاً، يظل إنهاء هذا الإحباط والشعور بالطريق المسدود هو الخطة الأنجع لإنهاء التمرد والإرهاب المرافق له، وليس الاتكال المفرط على قوة السلاح. ظلم الغرب لكن مشكلة الإرهاب في فرنسا وأميركا تهون مقارنة بالمشكلة المقابلة في الشرق الأوسط. هنا بدأ ظلم الغرب بعد الحرب العالمية الأولى بالسخرية والاستهزاء اللذين تجسدا في اتفاقية سايكس بيكو، ومن ثم في وعد بلفور وتسليم معظم فلسطين لليهود الأوروبيين، على أساس «أرض بلا شعب لشعب من دون أرض»، وذلك على حساب ملايين من اللاجئين العرب. كما أذاقت فرنسا الاستقلاليين في الجزائر الأمرّين، إلى أن وصلت الأمور إلى قتل أطفال العراق بالتجويع نتيجة الحصار الأممي عليه، وأخيراً إلى حروب مفتعلة دمرت العراق وسورية وليبيا وخلّفت مئات الآلاف من القتلى والجرحى من المدنيين في هذه البلدان، وملايين اللاجئين، ودمار غير مسبوق. هنا العودة إلى الأسباب ومعالجتها، كحل القضية الفلسطينية مثلاً، مسألة معقدة تتطلب تفهماً وإرادة سياسية غير موجودين بعد في اوساط الدول الغربية أو المجتمع الدولي، ما يجعل البديل أن يتعود العالم على العيش مع الإرهاب المتصاعد، كما نصح فرنسوا هولاند أخيراً. ما يجب أن نفهمه في هذه الأثناء هو أن الإرهاب ليس سببه الدين الإسلامي كما يقول البعض، كما أنه لم يكن يوماً بسبب الدين الكاثوليكي عندما كان الجيش الجمهوري الإرلندي يقتل البروتستانت المدنيين، أو الدين البروتستانتي عندما كان الكيو كلاكس كلان يحرقون الصلبان أمام منازل السود في أميركا، أو دين البوذيين الذين يرهّبون المسلمين بطرق غير مسبوقة في ميانمار وسري لانكا، أو الدين الشينتوي عندما كان الجيش الأحمر الياباني يرتكب أعماله الإرهابية. لذلك فالقضاء على الإرهاب لن ياًتي من خلال إصلاح الأديان، بل من خلال اعتماد القوى الفاعلة في العالم سياسات أكثر أخلاقية من السياسات المسماة واقعية المتبعة حالياً، وذلك بعد اعترافها بالظلم الذي ارتكبته والعمل على إصلاحه. * سفير لبنان في واشنطن سابقاً