قبل فترة شاركت عضواً في اللجنة العلمية التي ضمّت أيضاً الدكتور خالد عبدالجليل عضواً والدكتور محمد كامل القليوبي رئيساً لمناقشة رسالة الدكتوراه التي قدمها أخيراً (12 تموز - يوليو 2016) الباحث العراقي وليد شاكر إلى أكاديمية الفنون في القاهرة لنيل درجة الدكتوراه. وهذه الرسالة تعد الأولى من نوعها في الثقافة العربية، فقد ظلت العقلية العربية بمنأى من اعتبار السينما فناً جديراً بالدراسات الأكاديمية من ناحية، وظل الفكر السينمائي العربي محروماً من التفاعل مع العلوم الإنسانية من ناحية أخرى، ولعل ذلك كان سبباً أو نتيجة لنظرة المثقفين العرب عامة إلى السينما باعتبارها فناً «شعبياً» لا يستحق كل الجهد المطلوب لدراسته فضلاً عن مشاهدته أصلاً. واستمرت هذه النظرة المتدنية للسينما لعدة عقود طويلة، حتى قبيل نهاية القرن الماضي. وقد شغلتني هذه العلاقة -غير الصحية- في حياتنا الثقافية منذ بداية اهتمامي بالسينما. ولعل مقالي عن «سيكولوجية الإبداع وكيف نُفيد منها في الفن السينمائي» (مجلة «السينما»- تموز/ يوليو 1970م) يعتبر أول محاولة في مقاربة السينما بالعلوم الإنسانية. وقد حاولت من جانبي أن أطور هذه العلاقة من خلال حلقات البحث المتعددة التي أشرفت على إعدادها وتنفيذها ضمن نشاط لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة، وكانت الحلقة الأولى منها والأولى من نوعها في ثقافتنا العربية أيضاً، بعنوان «الإنسان المصري على الشاشة» عام 1985. وصدر عنها كتاب يحمل العنوان نفسه عام 1986، وفيها استعنتُ بمجموعة من أساتذة الدراسات الإنسانية للمشاركة بأوراقهم البحثية. وكانت الحلقات البحثية الأربع (من 2008 حتى 2011) تغطي بالدراسة مراحل تاريخ السينما المصرية خلال القرن العشرين. وقد حرصت في كل منها على مشاركة أساتذة العلوم الإنسانية المختلفة بأوراقهم البحثية التي تعبر عن نظرتهم الخاصة من خلال مناهج كل منهم (في علم النفس والاجتماع والتاريخ والفلسفة والسياسة والاقتصاد واللغة). بين فرويد ولاكان وتأتي رسالة الباحث وليد شاكر «العناصر الدرامية للفيلم الوثائقي» لتوظف نظرية التحليل النفسي عند فرويد ونظرية المرآة عند جاك لاكان في فهم العملية السينمائية وتمثل الذروة في هذا الاتجاه للعلاقة الصحية بين السينما وعلم النفس. وإذا كانت البنية النفسية عند فرويد تتمثل في ال «هو» id الذي يعمل على أساس مبدأ اللذة ويخضع للغريزة، وال «أنا الأعلى» Super ego التي يتمثل بالُمثل والأعراف الإنسانية، فال «أنا» Ego التي تقف بينهما يحكمها الشعور الواعي لتختار سلوكاً لا يخضع لمبدأ لذة ال «هو» أو يصطدم بمثالية ال «أنا الأعلى». نجد الباحث يقارب بين دور ال «أنا» ودور البطل (الشخصية الرئيسية في الفيلم). ويرى أن ال «أنا الأعلى» تقابل الفكرة الرئيسية أو التيمة الفيلمية (التضحية مثلاً) التي ينطوي عليها العمل الفني. وال «هو» –في الفيلم التسجيلي- يكون الطرف الذي يتقاطع مع أيديولوجية صاحب العمل، فهو خصم فكري أكثر من كونه خصماً شخصياً. ويقارب الباحث بين الفيلم ومفهوم الحلم عند فرويد. في كليهما تتعطل مفاهيم الزمان والمكان وننتقل إلى عالم خيالي. وإن كانت الذات النائمة في حالة الحلم متمثلة بال «هو» بينما تكون الذات في السينما في وضع مُركب تبادلي بينها وبين الفيلم تستقبل محفزات من الخارج ومن خلال ال «أنا» التي تكون فيها ذات المُشاهِد في حالة شبه مستيقظة وشبه حالمة. وداخل كل من الفيلم والحلم يجري بعض العمليات المتماثلة، ومنها التكثيف - رحم الالتقاء الدلالي»- وهو عملية رمزية يتاح بها لمضمون ظاهري واحد التعبير عن مضامين عدة كامنة. إنه لقطة تندمج عندها معان مختلفة. والإزاحة عند فرويد هي «صرف الطاقة المتولدة عن غريزة في نشاط مادي»، وهي في الفيلم تعني «عملية تجنب إظهار كل ما يمكن أن يتعارض والفكرة الرئيسية للعمل وأيديولوجيته»... والوظيفة الرئيسية للتكثيف والإزاحة هي تمرير الأشياء من وراء عين الرقابة التي تماثل ال «أنا الأعلى». ومن العمليات التي تربط بين الفيلم والحلم، «حالة اللذة» وهي عند فرويد «الشعور بالرضا والاستمتاع والبهجة التي ترتبط بمواقف معينة». وتكمن لذة المتلقي للفيلم في حالة التوحد مع البطل. وتقوم «عملية التلصص» بتحقيق مبدأ اللذة التي يشعر بها المتلقي من خلال تلصصه أثناء مشاهدة الفيلم وما يتضمنه من محاكاة لكوامنه اللاشعورية التي طالما حاولت ال «أنا» كبحها بضغط من سلطة ال «أنا الأعلى». الطفل والمرآة والشاشة ويرى جاك لاكان في تحليله النفسي، أن هناك تقارباً بين الطفل والمتلقي من ناحية، والمرآة والشاشة من ناحية أخرى. حيث يتشابه ما يراه الطفل في المرآة ويتوحد معه، وما يراه المتلقي على الشاشة ويتوحد معه أيضاً. ما يراه الطفل يؤدي إلى بناء ال «أنا» عنده، بينما ما يراه المتلقي على الشاشة يؤدي إلى إعادة بناء ال «أنا» مراراً وتكراراً من خلال عملية التوحد والتماهي وفقدان ال «أنا» وإعادة بنائه من جديد. تتحقق اللذة عند الطفل بشكل لاواعٍ، وعند المتلقي في شكل متعمد وواع. السرد ليس مجرد موضوع وإنما صيرورة، فعل لتحقيق وظائف معينة، مثل: «الإخبار، الإقناع، التسلية، لفت الانتباه»، فالقصة لا تتحدد بمضمونها فقط، وإنما بالطريقة التي يقدم بها هذا المضمون. ومن عناصر بنية المتن الحكائي السردي، الشخصية السردية التي تكون واضحة المعالم، حيث تمثل تجسيداً للدور وانتقالاً به من طور التجريد لعالم الحكي، ما يكسبها أهمية ووظيفة ويؤهلها لعقد العلاقات المختلفة مع غيرها من شخصيات. ومن أهم مكونات الخطاب القصصي مسألة حضور الراوي، ودرجة ذلك الحضور ونوعه. الراوي هو التقنية التي تبقى تحت تصرف المؤلف لكي يدير الحدث من خلالها... ويكون خارج الحكي أو داخل الحكي، مشاركاً في الأحداث أو غير مشارك. ويكون راوياً مُلماً بالتفاصيل «متسلطاً ديكتاتورياً»، أو راوياً محتشماً ينقل لنا ما عجزت عن تقديمه الصور الفيلمية. أو يكون الراوي غائباً حيث تكون الصورة وحدها كافية. وفي الباب الثاني من الرسالة ينتقل الباحث إلى قلب الرسالة بدراسته عن «الفيلم الوثائقي وعناصر الدراما»، وهو يُسلم مبدئياً باستخدام المصطلحين معاً (الوثائقي والتسجيلي) دون مفاضلة بينهما، ويصنف الفيلم إلى «أنواع» وفق المضمون، أو المعالجة، أو البناء. والزمن في الفيلم يكون زمناً مادياً؛ زمن عرض الفيلم، وزمناً درامياً يستغرقه الحدث داخل الفيلم (الزمن الذي تستغرقه مشاهد سلالم الأوديسا -في فيلم «الدارعة بوتمكين» أطول من الزمن الواقعي لها)، والزمن النفسي يحدده الانطباع العاطفي الذي يشعر به المتفرج عند مشاهدة الفيلم. ومن الأنساق البنائية التي تأخذها أحداث الفيلم؛ نسق التتابع الذي يراعي الترتيب الزمني، ونسق التداخل الذي تتداخل فيه مكونات الأحداث، ونسق التوازي وفيه تتجزأ مكونات الأحداث من حيث تتعاصر زمنياً، والنسق الدائري وفيه يعود المتن الحكائي إلى نقطة البداية من جديد، ونسق التكرار وفيه تتعدد زوايا النظر وفق كل شخصية إلى الحدث نفسه. وللمكان وظيفتان؛ وظيفة تفسيرية حيث يكشف عن الحياة الشخصية والاجتماعية والثقافية. ووظيفة تعبيرية بما يثيره في نفس المتلقي من إيحاءات ورموز ودلالات. والمكان في الفيلم الوثائقي يكون واقعياً وليس وفق ما يتمناه صناع الفيلم كما في الروائي، حيث يكون المكان مصنوع بالديكورات المناسبة لبنيّة الحدث. وتواصل الرسالة بتقديم مباحثها عن العناصر الدرامية للفيلم الوثائقي: (الشخصية/ الصراع والفعل/ اللغة). وكذلك تقدم الدراسة عناصر المصداقية لشخصية الفيلم وعملية الإقناع. أما في الباب الثالث والأخير، فيقدم الباحث دراسة تحليلية تطبيقية مقارنة، وبها يستكمل دائرة البحث، ويطبق ما جاء من مبادئ نظرية في البابين السابقين على فيلمين تسجيليين، أحدهما فيلم أجنبي «نهضة هتلر» إخراج إيزابيل كلارك، والآخر مصري «اسمي مصطفى خميس» إخراج محمد كامل القليوبي. وقد حظي الفيلم المصري بتحليل مستفيض لم يحظ به أي فيلم تسجيلي مصري سابق. وفي النهاية نال الباحث درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى.