حين يتأمّل الناس في موضوع السياسة وعلاقتها بعلم النفس، يطرحون على أنفسهم أسئلة من قبيل: لماذا يفعل البشر ما يفعلون من تعذيب وقتل وحقد وكراهية بعضهم تجاه بعض؟ والجواب، هو أن كل نظرة سياسية إلى العالم تبنى في النهاية انطلاقاً من نظرة الإنسان إلى الطبيعة الإنسانية. مكيافيلي كان سوداوياً في شرحه علاقة الإنسان بالسياسة، وجان جاك روسو وتوماس هوبز وجان لوك طوّروا مفاهيم متباينة جداً لل «دولة الطبيعية» تصف وضعاً حقيقياً أو مفترضاً يكشف الطبيعة الأصلية للبشر على حقيقتها. لقد انبثق علم النفس السياسي الذي يعنى بوصف سلوك السياسيين في الواقع وتفسيره -كما يرى دافيد هوتون صاحب كتاب «علم النفس السياسي» (منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)- في فرنسا مع هيبوليت تين وغوستاف لوبون في القرن التاسع عشر، أما في إنكلترا فيعتبر صاحب كتاب «الطبيعة الإنسانية والسياسة»، غراهام والاس، واحداً من الآباء الموسسين لهذا العلم. أما أعظم المساهمات في هذا الميدان، فجاءت من فيينا وفرنكفورت مع سيغموند فرويد وأريك فروم. يعتبر كتابا هارولد لاسويل «علم النفس والسياسة» و «القوة والشخصية»، دراستين تفسّران التطورات الأخيرة في نظرية التحليل النفسي الفرويدية، فالشخصية السياسية في منظور لاسويل تنتج من إحلال المشكلات الشخصية على الحياة العامة، والحركات السياسية تأخذ حيويتها من طريق إحلال العاطفة الخاصة على موضوعات عامة. والأفراد الذين يتجهون إلى السياسة كثيراً ما يسعون إلى القوة السياسية تعويضاً عن شيء آخر، ربما تعويضاً عن تقدير متدنّ لذواتهم، وسعياً إلى تغيير ذواتهم بتغيير سمات المحيط الذي يعيشون فيه. سلوك انساني يعتبر معظم المحللين في علم النفس السياسي أن ليس هناك اتفاق حقيقي حول أفضل النظريات في مجال تحليل السلوك الإنساني، ولكنهم يذهبون إلى اعتبار أن اعتقاداتنا المعرفية والأطر الذهنية التي نفهم العالم من خلالها، ما هي إلا نتاج الخبرة، بل إنّ كثيراً من نزاعاتنا إنما تنتج من مواقف عشناها أو مررنا بها. من هنا، فإن الموقفية (منظور لفهم السلوك الإنساني تعتبر فيه البيئة أو الموقف المحيط بالفرد هو العامل الأكثر أهمية في تشكيل أو توجيه سلوكه) تفترض أن البيئة هي كل شيء، وأنها المحدّد الرئيس لسلوك البشر. على العكس من ذلك، فإن النظرية النزوعية (منظور يعتبر فيه الفرد وما يحمله من قيم واعتقادات وخصائص شخصية هي العمل الأكثر أهمية في توجيه سلوكه). يجسّد موضوع الإرهاب التمايز بين النظريات النزوعية والنظريات الموقفية بشكل جلي. لقد سعى الباحثون للكشف عن سمات «الشخصية الإرهابية»، وقد تبيّن لهم أن هذه الشخصية تتصف «بالغرابة» و «الشذوذ النفسي» وهي نتاج الظروف البيئية المحيطة بالفرد أكثر مما هي مرتبطة بالسمات الشخصية البحتة للإرهابي. ينقل صاحب الكتاب عن الخبير الشهير بموضوع الإرهاب بريان جنكيز، أن ما يميّز الإرهاب عن غيره من أشكال العنف، هو أن الإرهاب يتضمّن أفعالاً ترتكب بطريقة دراماتيكية لجذب الانتباه العام وخلق مناخ من الرعب يتجاوز الضحايا الذين تعرضوا له. والحقيقة أن هوية الضحايا تكون ثانوية أوغير مهمة للإرهابيين، لأن عنفهم يتجه إلى الناس الذين يشاهدون ذلك العنف. ويختلف الإرهاب عن القتل الجماعي أو الإبادة الجماعية، من حيث إن الأخير يرمي إلى قتل جماعة بالكامل بينما يرمي الإرهاب إلى قتل عدد محدود من الناس للتأثير على جمهور واسع. استند الباحثون في فهم الأفعال الإرهابية من منظور نفسي إلى نظريات قائمة على التحليل النفسي. وكثيراً ما وظّفت نظريتا الإحباط– العدوان والغضب النرجسي وغيرهما من النظريات ذات الجذور التحليلية النفسية، لفهم الأسباب التي تودي بالناس إلى الإرهاب. نظرية الإحباط– العدوان نظرية بسيطة ومباشرة تذهب إلى القول إن العدوان يحدث عندما تتعرّض أهداف الفرد إلى الإحباط أو الإعاقة. وعند تطبيق هذه النظرية على الإرهاب يكون الفعل الإرهابي شكلاً من أشكال الإبدال أو الإحلال. أما نظرية النرجسية– العدوان، فترى أن الشخص الإرهابي يكون على اقتناع تام بأهميته في هذا العالم، لكنّ العالم -لسوء الحظ- لا يشاطره هذا الاقتناع، ما يؤدّي به إلى الغضب النرجسي ومن ثم العدوان. وكثيراً ما تتأكّد هذه النظرية من خلال العديد من الإرهابيين الذين واجهوا عقبات شديد ة في حياتهم الخاصة، كالفشل الدراسي أو المهني اللذين يكوّنان عند هؤلاء إحساساً يحيق بتقدير الذات والشعور بالغضب الناجم عن مثل هذا الفشل. وعلى الرغم من صعوبة تحديد ما يجعل أفراداً بعينهم أكثر قابلية من غيرهم للانضمام إلى جماعة إرهابية، فإن المؤلف يرى أن للاعتقادات التي يحملها الفرد، وتنشئته الاجتماعية، وخبراته الحياتية، وإحساسه بعدم الرضى عن الحياة، وقدرته على تخيّل بدائل أخرى لحياته، دوراً في جعله إرهابياً. يتوقّف المؤلف بوجه خاص عند العلاقة الوثيقة بين الإرهاب الانتحاري والعقائدية المتطرفة، فيذكر أن هذه الظاهرة حديثة، بدأت في أوائل الثمانينات، وتحديداً بعد تفجير السفارة الأميركية وثكن مشاة البحرية الأميركية في بيروت. وتخلق هذه الظاهرة مشكلة للمنظورات النفسية التي أشرنا إليها. فقتل النفس من أجل قضية يبدو خارج حدود المعقول، كما تشكّل هذه الظاهرة تحدياً لمنظور الإنسان الاقتصادي في تفسيره للإرهاب لجهة الأرباح والخسائر. دوافع الانتحار يعتبر مؤلف الكتاب أن تفسير الإرهاب الانتحاري تفسيراً وافياً يكون نتيجة ثلاث مستويات: المستوى الأول ويمثّل العوامل النزوعية، المستوى الثاني يمثّل العوامل الموقفية، أما المستوى الثالث فيمثّل القوى الموقفية الأبعد الاجتماعية– الثقافية والاقتصادية والسياسية. في المستوى الفردي، يرى هوتون أن التعرض للإهانة في الحياة المبكرة يؤدي إلى نشوء شخصيات مضطربة، ويضيف أن المفجرين الانتحاريين يكونون مدفوعين بانفعال الانتقام (بعد فقدان أحباء لهم أو بدافع النقمة على الظلم الاجتماعي) وهو ما ينطبق على المفجرين الشيشان والفلسطينيين بوجه خاص. أما في الحالات الدينية، فيكون الدافع للانتحار الثواب في الحياة الآخرة، وهذا ينجم عن إحساس بالواجب تجاه القيم الخاصة للفرد، أو تجاه العائلة، أو المجتمع، أو العقيدة. وقد ينظر إلى التقاعس عن الفعل كخيانة للمثل العليا. كتاب دفيد هوتون عن علاقة السياسة بعلم النفس كتاب غني بمعلوماته، وغني بتحليلاته الأكاديمية التي سيفيد منها المهتمون بالسلوك السياسي، ما يفتح باب الأسئلة التي لا تنتهي حول أمرين: الأوّل يتبع المنطق الاقتصادي مفترضاً أن البشر مخلوقات عقلانية تزن الأرباح والخسائر في كل عمل تؤتيه، والثاني يتبع المنطق الاجتماعي الذي يضع الجماعة وأهدافها فوق كل اعتبار.