بدأت ملامح السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط تتضح مع العد العكسي للخطاب المنتظر للرئيس باراك أوباما الى العالمين العربي والإسلامي بعد اسبوعين تقريباً وهناك جديد في الخطاب السياسي وفي الأسلوب والفحوى. جزء من الرسائل الأميركية الرئيسية أتى خلال الاسبوع الماضي عبر السفيرة لدى الأممالمتحدة برتبة وزير، سوزان رايس، في جلسات مجلس الأمن المغلقة والعلنية وبالذات نحو مسألتي فلسطين ولبنان. والاجتماع الوزاري لمجلس الأمن يوم الاثنين الماضي - بمبادرة من روسيا - كان مناسبة لانطلاقة دولية بشراكة اميركية من منبر مجلس الأمن لابلاغ اسرائيل أن عهد حمايتها من الضغوط الدولية قد ولّى وأن صنع السلام وإنشاء دولة فلسطين مسؤولية دولية وليس أمراً متروكاً للمفاوضات الثنائية كما ترغب حكومة بنيامين نتانياهو. الامين العام للأمم المتحدة بان كي مون عالج الخطأ الذي ارتكبه في كيفية تناوله للتحقيق في الهجمات الاسرائيلية على منشآت الأممالمتحدة في غزة، المعروف بتقرير ايان مارتن، فألقى أحد أهم خطبه في الشأن الفلسطيني - الاسرائيلي ومتطلبات السلام الشامل في الشرق الأوسط. روسيا نشطت دورها عبر رئاستها لمجلس الأمن الشهر الجاري وعبر المؤتمر الدولي الذي تعد له هذه السنة في موسكو. والمبادرة العربية للسلام استحوذت على دعم عالمي فاعتبرها وزير خارجية بريطانيا «وديعة يجب أن يكون لها نظير» وتعهدت رايس باعتمادها «لتدمج» في ما هو متوقع أن يكون مبادرة اميركية متكاملة مقبلة قريباً. وهذا بحد ذاته يشكل نقلة في السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط علماً بأن الادارات السابقة تهربت وتملصت وحذفت بعيداً تلك «البطاطا الساخنة» كي لا تقع تحت ضغوط محلية انتخابية، فأهملت ملف النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي والعربي - الاسرائيلي حتى السنة السابعة من سنواتها الثماني في البيت الأبيض. والكلام ليس عن ادارة جورج بوش فحسب وانما ايضاً عن ادارة بيل كلينتون. اليوم ادارة باراك أوباما تتكلم عن مركزية حل المسألة الفلسطينية في أي سلام شامل في المنطقة وهي تتحدث عن نتيجة ملموسة وليس عن «عملية» تخدير وتأجيل تحمل اسم «العملية السلمية». وكل هذا جديد. ما زالت ادارة باراك أوباما في الامتحان وستبقى الى حين اثباتها عزمها وقدرتها على أن تقوم بما يجب القيام به وعدم الاكتفاء بمجرد عمليات تجميلية أو خطوات قاصرة لأن ذلك هو ما يمكن تحقيقه في حدود المستطاع. انما من الضروري للأطراف العربية، لا سيما تلك الأصوات الغاضبة والصاخبة، أن تتوقف قليلاً عند الخطوات التي تتخذ الآن لتقدرها وتشجعها بدلاً من أن تنصب عليها لوماً وقذفاً، وأن تدقق في ما يجب عليها هي القيام به لمساعدة الشعب الفلسطيني حقاً من أجل التخلص من قمع الاحتلال. باراك أوباما لا يحمل العصا السحرية انما في وسعه هو - أكثر من غيره - أن يوظف الدعم الشعبي الذي يتمتع به ليتدخل قيادياً وليقود بتدخل مباشر لمعالجة النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي. انه يفهم العلاقة بين القضية الفلسطينية ومشاعر مسلمي العالم نحو الولاياتالمتحدة. وهو يدرك أن أحد أهم سلاح يحصل عليه لإلحاق الهزيمة ب «القاعدة» وبالإرهاب ضد الولاياتالمتحدة والعالم يكمن في حشد الرأي العام العربي والمسلم بجانبه وضد الإرهاب و «القاعدة» وهذا يتطلب الحل العادل للقضية الفلسطينية. انما الرئيس الأميركي يدرك ايضاً ضخامة العراقيل وصعوبة الفرض على اسرائيل ولذلك انه يحاول صياغة مبادرة أوسع من معالجة ضيقة للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي أو العربي - الاسرائيلي. وواضح أنه استمع جيداً الى طروحات العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني الذي كلفته دول الاعتدال في المنطقة طرحها في واشنطن. انها الطروحات ذاتها التي حملها الملك عبدالله الثاني في خطابه الى الكونغرس وأثناء زيارته البيت الأبيض في عهد جورج بوش قبل حوالي سنة ونصف سنة ولم تلق تغطية حتى كلمة أو جملة في الإعلام الأميركي. فالرسالة التي يكررها دائماً هي أن السلام مع اسرائيل بناء على الحل العادل للقضية الفلسطينية لا يأتي بسلام مع 22 دولة عربية فقط وانما هو سلام أشمل مع أكثرية الدول المسلمة في العالم، والعاهل الأردني ضمن موافقة دول مسلمة مهمة على هذا القول قبل طرحه وتكراره مراراً. الجديد في الطروحات في عهد باراك أوباما هو العمل على السلام الشامل وإيقاف ألاعيب التنافس بين مسارات التفاوض السورية والفلسطينية واللبنانية مع اسرائيل. فالعمل يدور في حلقة تفعيل جميع المسارات وليس لعب المسارات ضد بعضها البعض شرط أن يكون المسار الفلسطيني جزءاً أساسياً مستقلاً غير خاضع للمساومات أو المقايضات. بكلام آخر، ان لا سلام من دون حل مسألة فلسطين، ولا سماح لأحد أن يعطل الحل الفلسطيني ليبقى رهن مساره. انما في الوقت ذاته، لا استبعاد للمسارات السورية واللبنانية بل العمل على تفعيلها في الوقت ذاته، باستقلالية وليس بتلازم المسارات، بهدف الوصول الى الحل الشامل والعادل والدائم. أي، ان محاولات الالتفاف على المسار الفلسطيني من خلال الانصباب على المسار السوري من المفاوضات مع اسرائيل لن تنجح ولن تكون مقبولة لدى ادارة باراك أوباما بغض النظر عمن يسوقها من خبراء ووسطاء اميركيين أو من مسؤولين سوريين واسرائيليين. ثم ان هناك من تحدى اولئك الذين قالوا إن المسار السوري أسهل من المسار الفلسطيني وإن فوائده كبيرة في فصل سورية عن ايران. هؤلاء اشاروا الى أن المطالب الاميركية من سورية تتضمن ضرورة وقف دعم الفصائل الفلسطينية التي تتخذ من دمشق مقراً لها وتعمل وتسرح في لبنان، وكذلك منع عبور السلاح والمعونات من ايران الى «حزب الله» ووجدوا أن القراءة الأولى لمواقف سورية تفيد بعدم استعدادها تلبية تلك المطالب. الكلمة التي ألقتها سوزان رايس في جلسة مغلقة لمجلس الأمن نهاية الاسبوع الماضي ونشرت في الموقع الالكتروني للبعثة الاميركية لدى الاممالمتحدة لها دلالات مهمة على سياسة باراك أوباما نحو لبنان وسورية. فهي أعلنت أن الولاياتالمتحدة «لا ترى فارقاً بين ما يسمى الجناحين العسكري والسياسي» ل «حزب الله»، و «لن تنخرط معه ما لم ينزع سلاحه تماماً مهما كانت علاقته بالحكومة اللبنانية»، وأن ازدياد انخراطها مع أطراف المنطقة وجيرانه «لن يؤدي أبداً بالولاياتالمتحدة للتضحية بسيادة لبنان» أو الى القبول «بصفقة على حسابه» و «هذا يشمل العمل المهم للمحكمة الدولية غير القابلة للتفاوض بصفتها جزءاً أساسياً من عملية إنهاء الإفلات من العقاب على اغتيالات سياسية في لبنان». هذه المواقف هي الأقوى والأوضح لادارة أوباما نحو لبنان ونحو «حزب الله» لا سيما أن رايس اعتبرت أن «اعترافه بدعمه متطرفين في مصر وتحريض الجيش المصري على تحدي قيادته السياسية» افعال «تذكّر بأن حزب الله يشكل تهديداً ليس فقط للبنان وانما للمنطقة بكاملها»، و «اننا نشترك مع الأمين العام للأمم المتحدة في ادانة تدخل حزب الله غير المبرر في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة». طالبت رايس بنزع سلاح «حزب الله» وتعمدت التذكير بأحداث ايار (مايو) للسنة الماضية عندما قام الحزب بمحاولة «الاستيلاء على بيروتالغربية بقوة عسكرية» محذرة من «الخطأ الفادح» في افتراض استكمال تنفيذ القرار 1559 طالما لم يتم تنفيذ نزع سلاح الميليشيات. طالبت سورية بترسيم الحدود مع لبنان لوقف «تهريب» السلاح الى «حزب الله» والميليشيات الفلسطينية لا سيما «الجبهة الشعبية - القيادة العامة» و «فتح الانتفاضة» اللتين تتواجدان في لبنان على الحدود مع سورية. واثناء مداخلتها العلنية في الجلسة الوزارية تعمدت رايس إعادة تأكيد الالتزام الاميركي بسيادة لبنان واستقلاله وقالت: يجب علينا أن نصر على انهاء تهريب السلاح وعلى نزع سلاح جميع الميليشيات، بما في ذلك «حزب الله». اللغة التي خاطبت بها السفيرة / الوزيرة الأميركية اسرائيل كانت بدورها لغة جديدة تميزت بالمطالبة والاصرار على حق التدخل الدولي من أجل تنفيذ التعهد بتنفيذ حل الدولتين وقيام دولة فلسطين بجانب اسرائيل. قالت إن الولاياتالمتحدة «جاهزة لتنشيط جهودها كي تصبح رؤية السلام الشامل واقعاً». وأشارت الى أن «الرئيس أوباما ملتزم شخصياً بتحقيق هذا الهدف وهو مستمر في القيادة المباشرة في هذه المسالة». أكدت «ان مصلحتنا ليست في عملية مطولة ومماطلة وانما هي في النتائج الحقيقية». وقالت إن الولاياتالمتحدة اتخذت خيارها وقرارها وخاطبت اعضاء مجلس الأمن مباشرة لتقول «ونحن نطلب منكم جميعاً أن تقفوا معنا، أن نقف سوية مع سلام دائم». هذه لغة جديدة لإدارة أميركية في مطلع عهدها احتضنت مبادرة روسية بعقد جلسة وزارية لارسال رسالة إجماع الأسرة الدولية على مركزية حل الدولتين وإجماعها على التدخل المباشر من اجل قيام الدولة الفلسطينية بشراكة دولية وبدور دولي. وهذا ما لم يعجب الحكومة الاسرائيلية. كلام الأمين العام بان كي مون لا بد أنه نال الاستياء الاسرائيلي لأنه كان حازماً وغاضباً. قال: «حان الوقت لأن تغيّر اسرائيل سياساتها جذرياً»، لا سيما في ما يخص «اجراءاتها الانفرادية في القدسالشرقية وبقية الضفة الغربية - تدمير البيوت، وتعزيز النشاطات الاستيطانية، وعنف المستوطنين، والقيود الاضطهادية الناتجة عن اغلاق المعابر وبناء الجدار الفاصل - والتي هي في نهاية المطاف ذات علاقة بالمستوطنات». قال إن اسرائيل «لطالما وعدت تكراراً» بوقف هذه الاجراءات «لكنها لم تف» بوعدها. تحدى بان كي مون مزاعم اسرائيل بأن سياسة اغلاق قطاع غزة تضعف «حماس» ووصف الوضع في غزة بأنه «لا يطاق أبداً». وأشار بصورة غير مباشرة الى تملص اسرائيل الدائم من صنع السلام في اختراعها بدع الشريك الغائب أو الاطار الجديد اللازم، وقال إن «الاطار» موجود نحو سلام اقليمي وأن على الاسرة الدولية ضمان تنفيذ حل الدولتين، وإلا فإن «صدقيتها» معرضة للانتكاس في هذا الامتحان. البيان الرئاسي الذي صدر عن الجلسة الوزارية ركز على التزام مجلس الأمن ببذله المساعي الحثيثة لبلوغ هدف قيام الدولتين - فلسطين بجانب اسرائيل - وهذا بحد ذاته جديد على السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط. فصحيح أن ادارة بوش قامت في أوائل وأواخر عهدها بوضع مسألة الشرق الأوسط وعملية السلام وحل الدولتين في دار مجلس الأمن الدولي وهي شريك أساسي في صنع القرارات المهمة 1515 و1850 و1860، انما الصحيح أيضاً أنه لم يسبق لإدارة اميركية أن أقبلت في مطلع عهدها على شراكة مع مجلس الأمن الدولي في تناول مسألة الشرق الأوسط والنزاع العربي - الاسرائيلي. فالتشجيع في محله بدلاً من هدر الفرصة المتاحة بأسطوانة التخوين والمؤامرة.