«أول ما جئت إلى هذا البلد، كان اللبنانيون كرماء جداً وعاملوني كلاجئ فار من الحرب ويحتاج الى حماية. الآن يعاملونني على أنني إرهابي أو أشكّل خطراً على الأمن». هذا ما قاله لاجئ سوري لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» في تقرير لها نشرته في 30 أيلول 2014، حول ازدياد العنف الذي يستهدف اللاجئين السوريين في لبنان، وضرورة حمايتهم من جانب السلطات ومحاكمة المعتدين عليهم. ما قاله الشاب يعبّر عن التدهور الآخذ بالتسارع والتفاقم الذي يصيب وضع اللاجئين السوريين في لبنان منذ أكثر من ثلاث سنوات والذي ينذر بعواقب وخيمة. في بداية اللجوء السوري الى لبنان في العام 2011 ونظراً للانقسام السياسي اللبناني حيال الثورة السورية، كان هناك حال «إنكار» تتعاطى به مؤسسات الدولة مع اللجوء. «كان باعتقاد المسؤولين أن الوضع لن يطول وليست هناك حاجة لاتخاذ أي إجراءات تنظيمية. السوريون وقتها لم يكونوا في حاجة لسمة دخول الى لبنان وكانت الحدود مفتوحة. كان هناك أيضاً تعاطف معهم من سكان مناطق البقاع والشمال (الأفقر في لبنان) الذين استقبلوهم في البداية» قبل أن يتوزعوا بعدها على كامل الأراضي اللبنانية، كما قال نديم حوري، نائب المدير التنفيذي ل «منظمة هيومن رايتس ووتش» ل «الحياة». مع تدهور الوضع الأمني في سورية نتيجة الحرب وحين صار انخراط «حزب الله» في القتال داخل الأراضي السورية إلى جانب النظام علنياً، أي في أواخر العام 2012، أخذت أعداد اللاجئين السوريين تتزايد ودور المنظمات الدولية يكبر. بقيت الدولة اللبنانية غائبة معتمدة سياسة «اللاسياسة» حيال وضع السوريين، رافضة تنظيم مخيمات لهم لكنها في الوقت ذاته لم تطرح حلولاً بديلة، متعاطية بخفة مع ملف اللجوء وبمنفعة مادية كما تتعاطى مع الملفات الداخلية اللبنانية كالنفايات والكهرباء والصحة والتعليم والانتخابات. تُركت إدارة الأمور المتعلقة بالعمل «للديناميكية المحلية» وفق تعبير حوري. في العام 2012، بدأت اعتداءات على الوافدين الى لبنان تحصل، كما في الجعيتاوي حين داهمت قوى أمنية بيتاً في هذه المنطقة يسكن فيه عمال من الجنسيات السورية والسودانية والمصرية، واعتدت بالضرب المبرح على 72 منهم، بعد اتّهامهم «بالتحرش بالنساء». هكذا اعتداءات كانت تسبقها وتلحقها تصريحات من سياسيين أمثال وزير الخارجية جبران باسيل محرّضة على السوريين.... في العام 2013، اتّخذت بلدية برج حمود أوّل تدابير تمييزية بحق السوريين. طالبت سكان المنطقة بعدم تأجير بيوتهم لسوريين، وطردت البعض من بيوتهم. «هذا الإجراء كان بداية لما سنشهده لاحقاً في ظلّ غياب سياسة واضحة من الدولة وترك البلديات تأخذ الإجراءات» على هوى تعاطفها مع قضية اللاجئين من دون خطة مركزية لدعم هذه البلديات، أكمل حوري. في العام 2014، قيّدت 45 بلدية حركة اللاجئين السوريّين فيها عندما فرضت عليهم حظر تجوّل ليلي، مغذّية بذلك مناخاً معادياً لهم. بدت قرارات الحظر هذه «انتقاماً من الاشتباكات التي حصلت في عرسال في آب(أغسطس) 2014 بين الجيش اللبناني ومجموعات متطرفة تنطلق من سورية» كما جاء في تقرير لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» عن هذا الإجراء. شكّلت أحداث عرسال وقبلها الانتخابات الرئاسية في سورية في حزيران(يونيو) 2014 التي شاركت فيها أعداد كبيرة من السوريين الموجودين في لبنان «صدمة لبعض اللبنانيين» سبقها صعود جبهة النصرة و «داعش» في سورية. وكان لذلك الأثر الكبير، في تدهور الوضع أكثر فأكثر في ما يتعلّق باللاجئين. ازدادت الخطابات الشعبوية والتعبوية التي تؤجج الخوف والكراهية تجاه السوريين وتُبيح الاعتداء عليهم، كما حصل في مرات عديدة وتحديداً بعد كل انفجار أو جريمة . «كل مجتمع يجد كبش فداء يرمي عليه مواصفاته الأكثر سوءاً. فكرة أن «الوحش» غريب تُطمئن المجتمع بأن البشاعة والبربرية هما خارجتان عنه وتساعد على تأمين اللحمة في وجه «العدو الخارجي». في الحقيقة، هذا العدو هو في مكان ما صورة عن بربرية المجتمع وضعفه وعنفه»، وفق نادية عيساوي، الباحثة الاجتماعية. «ردّات الفعل المجتمعية قد تحصل في كل البلدان. لكن حكومات البلدان هذه تأخذ قرارات موحّدة وتطبق القوانين بطريقة واضحة وعادلة»، علّق حوري. «أما في لبنان، فالمقاربات هي دائماً أمنية، وفي إطار فوضوي». القرار الوحيد الذي توحّد خلفه الفرقاء اللبنانيون المنقسمون كان ذلك الذي أصدره الأمن العام في أول شهر من العام 2015 والذي هدف الى الحدّ من اللجوء عبر فرض سمات دخول على الهاربين من الحرب في سورية وقيود على إقامات السوريين في لبنان بهدف إرغامهم على الرجوع الى بلدهم. وعدا عن أن هذا القرار مخالفٌ للمعاهدات الدولية والمنظومات القانونية التي تنصّ «على عدم إمكانية الإبعاد القسري الى مناطق تشهد حروباً»، إلا أنه فشل في تحقيق هدفه، إذ لم يستطع إرغام السوريين على العودة الى بلدهم، ولم يتمكن من تنظيم إقاماتهم داخل لبنان. «غالبية السوريين الموجودين في لبنان ليست لديهم إقامات. لا يملكون 200$ ثمن تجديدها، ولا إمكانية لتأمين الأوراق المطلوبة أو إيجاد كفيل»، أخبر حوري. للصحافية ديانا مقلدّ قصّتها مع الأمن العام وموضوع الإقامات. «تجربة أن تكفل سورياً في لبنان هي فعلاً مهينة وغير منطقية. على الموقع الإلكتروني للأمن العام إعلان عن الأوراق المطلوب تأمينها، وعند كاتب العدل، تُطلب منك أوراق أخرى. هي حفلة كذب وفرض شروط تعجيزية. ذهبت أربع مرات مع صديقتي الى الأمن العام وفي كل مرّة نُطالَب بوضع صفة مختلفة لصديقتي وجلب ورقة جديدة. لولا لجوئي الى المعارف لما كنّا استحصلنا على إقامة. هذا وهي متعلمة ومن الطبقة الوسطى وظروفها تسمح لها بأخذ إقامة. فكيف حال الفئة الضعيفة والمهمشة من السوريين؟ ممنوع عليهم الحصول على إقامات، ويتمّ في الوقت ذاته حبسهم ومداهمة أماكن وجودهم لعدم حيازتهم إقامة». عدم إمكان الحصول على إقامة فاقم التهميش وأدّى الى مشاكل جديدة أخرى، قال نديم حوري. «هذا قيّد حركة الرجال خوفاً من التوقيف، فأصبح الأولاد بين ال12 وال13 يعملون لإعالة العائلة. العنف الأسري في ازدياد نتيجة حبس الناس في بيوتها، ومن يتعرض لتحرّش أو استغلال لا يمكنه أن يقدّم شكوى، ولا يمكن تسجيل الولادات الجديدة. هناك حالات اعتقال تعسفية وتعذيب وإذلال. كل هذا على خلفية ازدياد مستوى الفقر والمديونية. في آخر إحصاء موسّع لمفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين صدر في تشرين الأول(أكتوبر) 2015، 70 في المئة من السوريين هم تحت خط الفقر الذي هو أربعة دولارات ونصف في اليوم، و90 في المئة مديونون. نظام الكفيل أدّى أيضاً الى تسلّط قسم من اللبنانيين على السوريين». هذا القرار شجّع بعض السكان في المناطق الأكثر فقراً في لبنان، الذين هم بدورهم ضحايا التهميش الذي تتّبعه الدولة معهم على مدار سنين وتحمّلوا أعباء إضافية هائلة خلال السنوات الخمس الماضية، على استغلال من هو أضعف منهم. وهو بذلك شجّع على «الحرب بين الضحايا». «أوقفوا فقط الذّل عنّا»، هذا ما قاله شاب سوري التقيناه في الشمال. ولهذا الذّل الممارس تبعات ليس فقط على السوريين في لبنان، بل على اللبنانيين وعلى البلد ككل. «المنطقة كلها تعيش الأزمة ذاتها. الحلّ يكمن بكيفية التخفيف من تبعاتها على لبنان لكلّ من يعيش على أرضه، من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين»، قال حوري. عدا عن حقوق الإنسان وضرورة احترامها لبناء عالم قابل للحياة، والتي باتت مدعاة سخرية لمن يدّعون «قراءة الواقع» في تناولهم قضية اللجوء ويبحثون عن مصلحة لبنان في خطاباتهم وكتاباتهم، لا يكمن الحل، لمصلحة لبنان أولاً، بتعميم الخطاب المذهبي والتخويفي والتحريضي والكاره ضد السوريين. «هناك نيّة جدّية عند المجتمع الدولي لدعم لبنان، لكن على الجهة اللبنانية أن تساعده لكي يساعدها، وتأخذ قراراً موحداً وتخلق أرضية مشتركة. كيف سنصل الى هذه الأرضية بوجود الانقسام والشلل في مؤسسات الدولة، هذا هو التحدّي»، قال نديم حوري. يُذكر أن لبنان فوّت فرصته لتعديل سياسته تجاه اللاجئين خلال مؤتمر المانحين الرئيسيين الذي انقعد في شباط 2016 لمساعدة السوريين والدول التي تستضيفهم، كما سارع سياسيون الى انتقاد تقرير الأمين العام للأمم المتحدة «المعد تحضيراً للاجتماع العام الرفيع المستوى في شأن التعامل مع التحركات الكبيرة للاجئين والمهاجرين المزمع عقده في 19 أيلول 2016»، عبر «خلق معارك وهمية لبنانية ضدّ توطين السوريين» (راجع مقال أديب نعمة في الحياة في 1 حزيران- يونيو 2016). «ليس هناك من حلول سحرية وبسيطة لقضية اللاجئين. على الدولة اللبنانية توحيد قرارها للاستفادة من الدعم الدولي، ومعالجة التراكمات الحاصلة بملف اللجوء، وذلك يبدأ بتسهيل الحصول على الإقامات للسوريين بغية تنظيم وجودهم في لبنان وفق المعايير الدولية، وإيجاد خطة سكنية تحيّد التجمعات السورية عن المناطق الحساسة، وترك الخطاب الأمني لمن هو مختصّ بالأمن ووقف التحريض والعقاب الجماعي وملاحقة المعتدين على السوريين»، ختم نديم حوري.