يصعب ايجاد تعريف للوضع العراقي الراهن غير القول انه في «حيص بيص». لكن المفارقة الكبرى تتمثل في ان كل هذا التخبط السياسي المستمر منذ اعلان هذه النتائج قبل اكثر من اربعة شهور والذي يتعمق اكثر بمرور الوقت، لم يستطع ان يزعزع الامر الواقع. فالبرلمان السابق انتهت ولايته، لكن البرلمان المنتخب لا يزال غير قادر على ممارسة سلطاته كهيئة تشريعية. أما مجلسا الرئاسة (رئاسة الجمهورية) والوزراء، اللذان يؤلفان السلطة التنفيذية بموجب الدستور، فعلى رغم انتهاء ولايتيهما فإنهما، على عكس البرلمان المنتخب، يواصلان ممارسة سلطاتهما بالكامل. وبالتالي نتائج الانتخابات تبدو بالمقلوب: الرابح لم يربح والخاسر لم يخسر. الانتخابات اسفرت عن فوز أربع قوائم رئيسة: اثنتان تمثلان العرب الشيعة («الائتلاف الوطني» و «دولة القانون») وواحدة تمثل العرب السنّة (العراقية) والرابعة تمثل الكرد (التحالف الكردستاني). كل القوائم تؤكد أن لا خطوط حمراً لديها على اي من القوائم الاخرى، ويمكنها ان تشاركها كلها او بعضها في تشكيل الحكومة المبتغاة. كذلك تؤكد القوائم ان التوافق يجب ان يكون سيد الموقف في تشكيل حكومة شراكة وطنية لا تستثني احداً مع الاخذ في الاعتبار الاستحقاقات الانتخابية. المهم ان يتم الاتفاق بين قائمتين او اكثر كي تجمع العدد المطلوب من الاصوات في البرلمان لانتخاب رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. ما المشكلة اذاً طالما ان لا أحد ضد أحد والكل يؤكد انه يرفض الطائفية؟ الاستحقاقات الانتخابية؟ هنا تبدأ المشكلة التي صارت معروفة للقاصي والداني، لكن لا بأس من التذكير بها. من اجمالي عدد مقاعد البرلمان (325)، «العراقية» حصلت على العدد الأكبر (91) ثم «دولة القانون» (89) ف «الائتلاف الوطني» (71... والقائمتان الأخيرتان اتفقتا لاحقاً على تشكيل كتلة واحدة باسم «التحالف الوطني») ثم «التحالف الكردستاني» (43 وقد زاد العدد الى 57 بعدما اتفق طرفاها الرئيسان، الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني مع حركة «التغيير» والاتحاد الاسلامي الكردستاني على تشكيل كتلة موحدة تحت اسم «الائتلاف الكردستاني»). ما سلف يوفر خيارات عدة للاتفاق. هنا بعض هذه الخيارات وكلها يحقق العدد المطلوب لانتخاب الرئاسات الثلاث، لكن كل خيار ينطوي في الوقت نفسه على ألغام تجعل اجتيازها أصعب من خرق القتاد. الخيار الاول: «الائتلاف» و«القانون» و«الكردستاني» (217 مقعداً). هذا الخيار من شأنه ان يمهد لانتخاب جلال طالباني مرشح «الكردستاني» لمنصب رئيس الجمهورية من دون اعتراض اي من الجماعات المؤلفة للقائمتين الأخريين. ولكن هنا توجد مشكلتان اساسيتان: «تيار الاحرار» (الصدري) له 40 نائباً، ما يجعله الاقوى في «الائتلاف». هذا التيار رسم خطاً احمر لا يمكن تجاوزه على شخصية رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي الذي يتزعم «دولة القانون» التي تتمسك بقوة به كمرشح وحيد للمنصب. في المقابل هناك مرشحان اثنان من «الائتلاف» لمنصب رئيس الوزراء هما عادل عبدالمهدي نائب رئيس الجمهورية حالياً وإبراهيم الجعفري الرئيس السابق للوزراء. لكن حتى في حال تجاوز هاتين العقبتين، فإن هذا الخيار يبدو غير قابل للحياة لأنه يبدو بمثابة تحالف شيعي – كردي يهمّش المكون السنّي. الخيار الثاني: «الائتلاف» و«العراقية» و«الكردستاني» (219 مقعداً). هذا الخيار من شأنه ان يحل مشكلة التمثيل السنّي. لكن هذا الخيار ينطوي ايضاً على مشاكل كبرى. «العراقية» ستفترض مسبقاً ان رئاسة الوزراء محسومة لها طالما انها تملك العدد الاكبر من المقاعد البرلمانية. ونظراً الى ان رئاسة الجمهورية في هذه الحال ستكون مضمونة لمرشح «الكردستاني»، فأي منصب «سيادي» سيبقى ل «الائتلاف»؟ رئاسة البرلمان؟ لكن في ظل التوافقات العراقية، لا بد من ان يُعطى احد المناصب الرئاسية الثلاثة للسنّة، وهذا يفترض ان تحصل عليه احدى الشخصيات السنية البارزة في قائمة «العراقية». منصبان رئاسيان من القائمة ذاتها؟ مستحيل. الى ذلك هنا ايضاً لن يكون سهلاً الاتفاق على اي من القائمتين ستحصل على منصب رئيس الوزراء؟ الخيار الثالث: «القانون» و «العراقية» و «الكردستاني» (237 مقعداً). الصعوبة في هذا الخيار تكمن في انه يفترض حصول رئيس «العراقية» اياد علاوي على منصب رئيس الوزراء نظراً الى ان قائمته حصلت على عدد من المقاعد يفوق ما حصلت عليه قائمة المالكي. هذا تحديداً ما دفع المالكي في وقت سابق الى الاتفاق مع «الائتلاف» على تشكيل كتلة موحدة (التحالف الوطني) تضم مجتمعة 162 مقعداً لقطع الطريق على علاوي باعتبار ان الكتلة الجديدة تتمتع بصفة الكتلة البرلمانية الاكثر عدداً. لكن على رغم ذلك ظهرت في الفترة الاخيرة بوادر تشير الى امكان تحقيق هذا الخيار بحصوله على دعم اللاعبين الاميركي والتركي ولاعبين عرب (اللاعب الايراني له اجندات وأفضليات مختلفة تماماً). لكن هذا الدعم أوجد مشاكل اضافية بدلاً من حل المشاكل القائمة. فمن جهة، هذا يعني ان تحقيق هذا الخيار يفترض انشقاق «القانون» عن «التحالف الوطني»، وبالتالي حصول شرخ عميق في الجبهة الشيعية. ومن جهة اخرى، يشعر الكرد ان هذا الاتفاق المحتمل سيتم على حسابهم، خصوصاً بعدما تبين ان نائب الرئيس الاميركي جو بايدن روج اثناء زيارته الاخيرة الى بغداد (الأطول بين زياراته السابقة مستغرقة ثلاثة ايام) لحل يتمثل في حصول المالكي على رئاسة الوزراء، وعلاوي على رئاسة الجمهورية، الأمر الذي حمل القيادات الكردية على اطلاق سلسلة من التصريحات شددت على تمسك «الكردستاني» بمنصب رئاسة الجمهورية شرطاً لأي اتفاق مع الاطراف الاخرى. قصارى الكلام ان كل ما سلف يؤكد وقوع اهل الحكم في العراق في «حيص بيص». لكنها ليست المرة الاولى التي يحدث فيها ذلك، ولعلهم سيجدون هذه المرة ايضاً مخرجاً ما من الازمة. اللافت ان الحل في كل مرة يكون على اساس «توافق» بين الاطراف العراقية نفسها وليس حلاً يفرضه اللاعبون الخارجيون الكبار. هذا على الاقل الامر «الايجابي» الوحيد في كل هذا «الحيص بيص».