بات مشهد المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية غير المباشرة مُضجراً حتى للذين تحمسوا لها حين انطلقت. فبعد معاناة طويلة ونقاش حول الاستيطان وتجميده أو تعليقه انطلقت هذه المفاوضات وسجلت الإدارة الأميركية نجاحاً ديبلوماسياً لجهة إصرارها على استئناف مسار التسوية، وحظيت السلطة الفلسطينية بغطاء عربي أمّنه لها اجتماع وزراء الخارجية العرب. وفي تقييم لما أنجز حتى الآن فإن الأمر يقتصر على بعض الزيارات الروتينية التي يُطل بها الموفد الأميركي جورج ميتشل بين الحين والآخر لينقل الأفكار التي يتم تداولها بين الطرفين وعلى بعض الاقتراحات التي تقدم بها نائب الرئيس الأميركي جو بايدن ويتعلق معظمها بقضية اللاجئين، فيما الوقت ينفد أمام فترة تعليق البناء في مستوطنات الضفة والتي تنتهي في أيلول (سبتمبر) المقبل، حيث سيتطلب الأمر تنشيط الديبلوماسية الأميركية لمحاولة تمديد هذا القرار. ولعدة ظروف منها ما يتعلق بالداخل الإسرائيلي، أو بضعف السلطة الفلسطينية وعدم تحقيق المصالحة، وباشتداد الصراع مع إيران، يبرز السؤال حول الوظيفة الاستراتيجية التي تؤديها هذه المفاوضات، لا سيما أن الإحاطة الأميركية لها هذه المرة تختلف عن سابقاتها من حيث تأمين الظروف الإقليمية لنجاحها إذا قورنت بالظروف التي سبقت مؤتمر مدريد. كما أن ارتباط انطلاق المفاوضات بتهيئة الظروف لإطلاق رزمة عقوبات جديدة على إيران حوّلها إلى واحدة من مستلزمات السياسة الأميركية في المنطقة حيث تسعى إلى تحسين صورتها وإظهارها أنها تعمل من أجل مشروع السلام. وعلى رغم أن الموضوع الفلسطيني الإسرائيلي يشكل المسألة المركزية في دائرة الصراع في الشرق الأوسط إلا أن مساره التفاوضي المنفرد لا يضمن حل هذا الصراع ولا يشكل أي تغيير على المستوى الاستراتيجي حتى لو نجحت تلك المفاوضات في ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي. والواضح حتى الآن أن الحراك في المنطقة وتغير التحالفات وتوزّع القوى وتحديد الأدوار الإقليمية للدول الرئيسية يحصل من دون أي تأثير يذكر لهذه المفاوضات أو من دون أي حساب لإمكانية نجاحها. فالمنطقة مفعمة بكثرة اللاعبين وتعدد الأجندات وغياب الوساطات، ومن ثم بعدد لا بأس به من الجهات المتضررة من نجاح الفلسطينيين في التوصل إلى تفاهم حول التسوية. وبالتالي فلا شيء على المستوى الإقليمي ينبئ بإمكان «ترك» المفاوضات تنضج على نار هادئة، هذا فيما إذا كانت إسرائيل جادة في التوصل إلى تسوية، وهنا مكمن السؤال الذي يُطرح على الأميركيين في شكل رئيسي. إذ وفقاً لأي استراتيجية تتم مقاربة التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ وهل يمكن تحقيق النجاح على مسار واحد وتجاهل المسارات الأخرى؟ وهل ترتبط التسوية بتطورات الملف الإيراني وتخضع لمواقيته؟ بعد مدريد ذهب المفاوض الفلسطيني إلى أوسلو وخلص إلى تحقيق تسوية جزئية لم تنجح في التطرق إلى القضايا التي تسمى نهائية، واستطاع بناء سلطة في أريحا نقل إليها قيادته، وأخذ مسافة عن المسارات العربية التي أثقلت على قراره في أحيان كثيرة، لكن ذلك لم يؤمِّن له التوصل إلى تسوية حقيقية وشاملة على المسار الفلسطيني. بل ووفقاً لانطباعات فلسطينية عدة أعاق ذلك قدرة الفلسطينيين على الضغط لإجبار إسرائيل على تقديم التنازلات، وأفقدهم البدائل، ونقل النقاش إلى الداخل الفلسطيني فاتحاً الباب أمام بروز منهجين واحد يقول بالتفاوض وآخر يقول بالمقاومة. الولاياتالمتحدة جادة في نواياها تجاه تحقيق تقدم نحو السلام لكن هذه الجدية لا ترقى إلى مستوى تبني استراتيجية متكاملة تضمن آليات تنفيذ حل الدولتين أو إلى بناء تصوّر موضوعي ومنطقي للولوج إلى السلام. لقد أثبت تجاهل سورية كشريك استراتيجي في عملية التسوية فشله إذ لا يمكن التحدث عن اختراق في هذا السياق من دون أن تكون سورية شريكة في ذلك لاسيما وأن جُلّ ما تطلبه هو أن تُستأنف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها الوساطة التركية. أضف إلى ذلك تأكيد سورية الدائم لرغبتها في السلام كخيار استراتيجي في حال استعادتها للجولان المحتل. والسؤال هل تنجح مفاوضات مع الفلسطينيين من دون تسوية مع سورية، وهل تنخرط سورية في تسوية من دون استعداد إسرائيل للقيام بذلك؟ وإذا نجحت الولاياتالمتحدة في اقتناص اللحظة التي أعادت فيها المفاوضات غير المباشرة فهل تستطيع أن تكفل «انضباطاً» إقليمياً يضمن التوصل إلى نتائج، أم أن انقسام المشهد في المنطقة لا يزال يؤسس لاستبعاد الحلول وتقديم الاحتمالات الخطرة؟ وفي الحساب الاستراتيجي تتسبّب سياسة الحكومة الإسرائيلية تجاه المفاوضات والخلاف مع الولاياتالمتحدة بإعادة تشكُّل «اللوبيات» داخل البيئة اليهودية في العالم، وبنقاش سياسي وحزبي في إسرائيل يهدف إلى تغيير حكومي يدعم حل الدولتين ويعيد ترميم العلاقة مع الولاياتالمتحدة. وقد أتى النداء اليهودي الأوروبي للتعقل الذي تم إطلاقه من مقر البرلمان الأوروبي في شهر أيار (مايو) 2010 ليظهر تنامي التأييد بين اليهود خارج إسرائيل للتوصل إلى تسوية عادلة. من الواضح أن الأميركيين لم يضعوا كل إمكاناتهم في سبيل توصّل المفاوضات إلى تسوية مقبولة تقلب الأوضاع في المنطقة لمصلحة «معسكر السلام»! لأنهم لو أرادوا ذلك لأطلقوا العنان للمسارات كافة، وعملوا على احتواء بعض الأطراف الرئيسية بدل عزلها، وهذا ما يُخرج المفاوضات غير المباشرة من دائرة التحولات الاستراتيجية ويضعها في خانة الملحقة باستحقاقات أكثر منها أهمية. * كاتب لبناني