يتضمن كتاب «السلام والمجتمع الديموقراطي» مجموعة أبحاث قدمتها نخبة من المفكرين بتكليف من «هيئة الكومنولث» تحت عنوان «الاحترام والتفاهم بين المجتمعات والجماعات المختلفة»، بما فيها المجتمعات المستندة الى معتقدات دينية، وإبراز العلاقات في ما بينها. وأولت الأبحاث اهتماماً بالطرق التي يتم فيها بناء العنف والكراهية في المجتمعات، المتقدمة منها او المتخلفة، بالاستناد الى العداوات الدينية او العرقية والإثنية، او اي وسائل أخرى. حرر الأبحاث المفكر الهندي الأصل امارتيا سن وصدر الكتاب عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، بترجمة روز شوملي مصلح. يجمع خيط بين الأبحاث المقدمة في تقرير «هيئة الكومنولث» يقوم على اعتبار ان التصدي لمشكلات البشرية في كل المجتمعات يستند أساساً الى تطبيق مبادئ ومفاهيم حقوق الإنسان وسيادة الحرية والديموقراطية والقانون، إضافة الى المساواة الجندرية وبناء الثقافة التي تعزز الشفافية والمساءلة والتنمية الاقتصادية. تحت عنوان «الحاجة الى تفكير جديد في شأن النزاعات في العالم»، تناول تقرير الهيئة قضية الارهاب في العالم، فاستعاد الباحثون أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في الولاياتالمتحدة الأميركية، التي أنتجت فكراً سياسياً مثله أساساً كل من برنارد لويس وصموئيل هانتنغتون تحت عنوان «صراع الحضارات»، حيث ساد جدل كبير تجاه هذه النظرية لكونها تحمل مضامين عنصرية بين الغرب وبقية العالم. ذهب باحثون الى التفتيش عن أسباب العنف والوسائل التي تغذيه ليجدوها في اللامساواة الموجودة وفي الحرمان والإذلال، فيشير التقرير الى «أن الفقر واللامساواة في تعزيز القلق والكره، والعنف في شكل خاص، يستدعي بعض التعمق في التحليل، باعتبار أن الصلات ليست بأي حال ميكانيكية وثابتة. وإضافة الى اللامساواة الظاهرة، تتطلب الأبعاد النفسية للإذلال أيضاً بعض العمق في التحليل». في رصد الخلفيات البعيدة للمشكلات الراهنة، لا بد من ملاحظة امتدادات المشكلات التي عرفها تاريخ العالم وأثرها المستمر، فليس من السهل محو تاريخ من العذابات والاضطهاد والإذلال على واقع الشعوب. فالنسيان يحتاج الى عناصر تزيل آثار الاستعمار وما سببه للشعوب من ظلم وقهر، ليس من السهل محوها اذا لم تكن مترافقة مع ممارسات إيجابية في التنمية والاحترام للخصوصيات تجاه الشعوب التي خضعت للاستعمار، وهي عناصر مهمة في نشدان السلام العالمي والحد من التحريض على الكراهية. في مجال آخر، يلفت الباحثون النظر الى الدور الذي يحتله اليوم انبعاث الهويات القومية بالترافق مع الدين واللغة والإثنية. يمكن التعصب القومي ان يؤدي الى انغلاق الشعوب على ذاتها، والى لجوء الحكومات لتسعير التعصب ضد الآخر المجاور، إما لأطماع جيوسياسية، او لإيجاد تماسك سياسي داخلي قد يكون مهدداً بسبب الممارسة السياسية لهذه السلطات. في الحالين، تستوجب الهوية القومية سياسات رحبة تقوم على الاعتراف بخصوصيات كل مجتمع وبالتشديد على التعددية الثقافية داخله، بما فيها حقوق المجموعات التي يتكون منها هذا المجتمع، سواء أكانت من الأقليات الدينية أو الاثنية أو العرقية. مما لا شك فيه ان الإعلام، اليوم، يلعب دوراً مركزياً في تحديد السياسات وتوجهاتها، خصوصاً بعد الثورة التكنولوجية في ميدان الاتصالات التي جعلت المعلومة بإمكانها الوصول الى أي مكان في العالم في لحظات قليلة. والإعلام يلعب دوراً مزدوجاً، فهو يساعد على بناء عملية السلام من خلال الثقافة التي ينقلها الى العالم، وهي ثقافة تشدد على الاحترام والتفاهم والتسامح، فيما يمكن له ان يلعب دوراً مدمراً لهذه القيم ولمجمل المفاهيم التي ترتكز اليها حقوق الإنسان. ليس هذا افتراضاً، فالعالم يحف بآلاف المحطات الفضائية ووسائل الاتصال، الدينية منها والعرقية، والتي تقدم ثقافة تحض على العنف والكراهية، وتنتشر في شكل كثيف بين سكان العالم. تكتسب هذه القضية خطورتها من كون ثقافة الإنسان وتكون ذهنيته اليوم تستند، في معظمها، الى الإعلام المرئي خصوصاً بوسائله المختلفة، مما يمكن ان يؤدي الى تكوين شخصيات معاقة فكرياً وسياسياً. لا يخفى على الباحثين في هذا الكتاب الدور المهم للتعليم في تكوين أجيال الشباب في كل المجتمعات. كثير من الحكومات لا تعطي أهمية للاستثمار في مجال التربية والتعليم، ولا تقف كثيراً أمام طبيعة هذا التعليم والقائمين به، وما اذا كان متوافقاً مع التربية الهادفة الى خلق أجيال تؤمن بالمساواة والحقوق لكل المكونات الاجتماعية، ام نحن أمام تعليم يضخ ثقافة تحمل في جوفها كل عناصر التفرقة والتمييز واللامساواة، بين المجموعات الموجودة او تجاه المرأة. ان التوقف امام مناهج التعليم قضية في منتهى الأهمية، سواء لجهة وضع مناهج تواكب ثقافة التعدد والحرية والديموقراطية والمساواة، او مناهج تزيل من كتبها كل ما يحض على التفرقة والكراهية انطلاقاً من موروثات دينية او عرقية او قومية. لا يستسهل الباحثون النجاح في هذه المهمة، فغالباً ما تعكس المناهج طبيعة الثقافات والتقاليد السائدة في المجتمع، حيث يصطدم تغييرها، بل حتى تعديلها، بمعارضات قوية من القوى المهيمنة على الثقافة والأديان. لا شك في أن قبول التنوع واحترام البشرية جمعاء، وفهم غنى وجهات النظر المختلفة لدى البشر، تشكل اليوم أهمية كبيرة، ترفد القيم الانسانية التي أكدت عليها شرعة حقوق الإنسان وسائر المواثيق. إن كتاب «السلام والمجتمع الديموقراطي» مساهمة مهمة في هذا المجال.