أن ينقشع الضباب شيئاً فشيئاً عن أعمال الشاعر السرّيالي الكبير ستانيسلاس رودانسكي (1927-1981) أمرٌ لا يفاجئنا. فالاكتمال البطيء والمتدرج لتجليه إنما يقيم في صلب شخصيته المبدعة، كما لو أن العالم لا يمكنه أن يتقبّل إلا تدريجاً فكرة أن ينوّر حياتنا إنسانٌ عاش إلى هذا الحد على هامش حياته. وهذا ما يُفسّر فرحنا الكبير إخيراً في صدور نصّه «صلاةٌ لراحة نفسي» لدى دار Les Cendres الذي يأتي ليكافئ انتظارنا الطويل ورغبتنا الشديدة في قراءة هذا العملاق «الملعون» التي ما زالت غير ممكنة إلا في شكلٍ محدودٍ ومجتزأ. فإلى بعض أعماله التي صدرت قبل فترةٍ طويلة ونفدت نُسخها بسرعة من دون إعادة طبعها، لا يزال جزءٌ كبير من كتاباته غير منشور على رغم قيمته الأدبية الكبيرة وأهميتّه في تحديد بعض معالم شخصية هذا الشاعر الفريد ومساره ككل. وفعلاً، لا نعرف الكثير عن رودانسكي بسبب طبيعة شخصيّته الصعبة التي أبعدت المقرّبين منه وجعلته يفضّل العزلة والصمت خلال فترةٍ طويلة من حياته. لكن القليل الذي نعرفه كافٍ لجذبنا بقوة وشغف في اتجاهه. فباكراً جداً قفز إلى داخل حلبة الكتابة، وخلال فترة المراهقة، تبلور طموحه في أن يصبح كاتباً، قبل أن يدفعه نوعٌ من الاحتقار الراديكالي إلى الابتعاد عن المحيط الأدبي في عصره بعاداته وسلوكه وتجمّعاته، وإلى إهمال مسألة نشر نصوصه على رغم اختياره «الكتابة كغاية في الحياة»، كما يشير إلى ذلك في نص «السمّ المنتشي» الذي خطّه وهو في العشرين من عمره. «الكتابة لمكافحة الانهيار»، قال فيما بعد الطبيب النفسي برنار كادو الذي رافقه خلال الأعوام الأربعة الأخيرة من حياته في المصحّ العقلي. ولا نتجرأ على الحديث عن حياةٍ حول إقامته الطويلة الأمد في هذا المكان وهي تتميّز بصمتٍ مطبق وتوقّف عن الكتابة، باستثناء خمس وعشرين دفترٍ صغير ملأهما بكتابةٍ آلية لا توجّهها سوى الأوهام والتخيّلات التي كانت تقضّ مضجعه. الصمتُ إذاً كموسيقى ملائمة للغة الإفلات والرحيل التي هي لغته ولطريقة عيشه المفضّلة. فجميع الذين عرفوه أشاروا إلى قلّة كلامه وإلى عدم خروجه من صمته إلا للتفوّه ببضع كلماتٍ بصوتٍ من تحت التراب. وفي أحد نصوصه كتب مرّةً: «كل ما يمكن أن أقوله يبقى على هامش الصمت الذي يُعبّر عن السرّ الحقيقي الذي أعيش فيه». ومع ذلك، ثمّة عناصر كثيرة في كتاباته تعود إلى سيرته الذاتية. كما لو أن الحياة نفسها كانت تنقصه – «الحياة الحقيقية غائبة»، قال رامبو – وعلى الكلمات أن تمثّلها وتقدّمها له كطبقٍ كان قد وصفه سلفاً بالمُتخِم. ففي نص «السم المنتشي» كتب أيضاً: «الحياة، تلك الراية السوداء، تلك الدعاية للانتحار». طبعاً، دوّن رودانسكي يومياته ولكن في شكلٍ متقطّع وخلال حقب قصيرة. بالمقابل، استغلّ انزواءه في المصحّات العقلية التي عرفها منذ الثامنة عشرة من عمره للكتابة بغزارة وانتظام: «لا حيلة أخرى للسجين إلا القراءة والكتابة والتأمّل»، كتب في أحد دفاتره عام 1948. وبواسطة مصفاة لغته، كان يُعيد النظر في الأحداث الحقيقية أو المحلومة أو المُبتكَرة لفعل عبوره في هذا العالم. وتشكّل هذه الكتابات، خصوصاً تلك التي وضعها في مصحّ مدينة فيلجويف (1949-1952)، مرآة ثابتة لحياته التي تتحوّل إلى حقل علاماتٍ تتم مساءلتها باستمرار. ونتجت من هذا الفعل مجموعة نصوص تحمل النبرة ذاتها، هي: «مادّة 13»، «رسالة إلى الشمس السوداء»، «صلاةٌ على راحة نفسي»، «لا شيء يُذكر»، «لانسلو والوهم»، ونصوص أتلفها الشاعر أو ما زالت غير منشورة. الظروف الموضوعية التي مهّدت للنص الصادر حديثاً هي بسيطة نسبياً. عام 1949، أُدخِل رودانسكي مرّتين إلى مصحّ عقلي بسبب سلوكه العنيف، تفصل بينهما زيارته إلى مدينة ميجيف التي عاش فيها أحداثاً مؤثّرة وشعر بأنه كان ضحية مؤامرة من إصدقائه، فحوّل هذه الأحداث إلى لغزٍ حاول فكّه بواسطة الكتابة. وفي بداية عام 1952، اعتقد الشاعر بأنه شُفي فانتظر بهدوءٍ تصريح خروجه من المصح وشارك في الاستقصاءين اللذين قام بهما الناشر السرّيالي فرنسوا دي ديو تباعاً، الأول حول موضوع التمرّد، والثاني حول «زمن المجرمين» وحُكم الإعدام، الأمر الذي شجّعه على البدء في مشروع «صلاةٌ لراحة نفسي» الذي كان يختمر في رأسه منذ سنتين ويراه كروايةٍ بوليسية يُعيد فيها تشكيل الأحداث التي عاشها في مدينة ميجيف، على خلفية حدث إقصائه الصادِم من الحركة السرّيالية. وكما في سائر نصوصه المعروفة، يتجلى في هذه «الرواية» اهتمام رودانسكي الخاص بتقنية «النص الجاهز» أو «القصيدة الجاهزة» التي تقوم على استخدام جملٍ يقع عليها أثناء قراءاته ويجدها مناسبة، وعلى استحواذ مقاطع «عنيفة الجمال» مقتطفة من مجلات وصحفٍ حول أحداثٍ متفرّقة. وهذه تقنية أملاها قبله لوتريامون واستخدمها ريمون روسِّل ومارسيل دوشان وإن بطرقٍ مختلفة. ونظراً إلى حالته المرضية ونتائج الأدوية على ذهنه وطريقة تعبيره الخاصة، نلاحظ في بعض الأحيان انسياخ لغته الغنية والمفخّمة. أما حبل أفكاره، الذي يشبه حدّ مبضعٍ، فنجده ينساب داخل الزوايا الأكثر ازدحاماً وعتمةً من كينونته. والملاحظ أيضاً في مخطوطاته هو أن الشاعر لا يصحّح أو يُحسّن ما يكتبه، كما لو أن السعي خلف القيمة الشكلية ليس هاجسه، بل متابعة سديم فكرته. وفعلاً، يمارس رودانسكي خلط الأنواع – أي إلغاءها – في شكلٍ طبيعي. ولعل ميزة كتابته الرئيسية هي في غياب الحدود داخلها بين شعرٍ وتأمّلٍ وسرد. لكن أهمية نص «صلاة لراحة نفسي» لا تكمن فقط في بُعده الأدبي، بل في طبيعة كاتبه بالذات. فمع رودانسكي لا نجدنا داخل الأدب بل في صميم الكتابة، ومعرّضين لريحٍ رهيبة تعصف داخل النص. فكما في كتاب بروتون «نادجا»، يبدو السؤال «من أنا؟» مركزياً، مع فارقٍ واحد هو أن رودانسكي يُمثّل وحده نادجا وبروتون معاً، الجنون ووقعه. وفي هذا النص، يعرّف عن نفسه «كوجودي غير عدمي» ويجيب على السؤال الذي يتناول النقص في الكينونة بوصفٍ مُسهَب لأفعالٍ لا يخشى تفاهتها. فشخصيات «الرواية» تبدو مرسومة في شكلٍ ضبابي، مع أن رودانسكي استعارها من حياته بالذات، وتظهر أحياناً بأسمائها الحقيقية، وأحياناً أخرى بأسماءٍ خيالية أو مستعارة أو بالاسمَين معاً. وغالباً ما نجدها مُختصَرة بكلامها (السطحي) أو بملامحها وحركاتها الطبيعية في شكلٍ رهيب.