لم تقم الولاياتالمتحدة بعد بإجراء تقويم جدي لمغامرتها المؤسفة في العراق. فلا شكّ في أنّ الجراح السياسية والجسدية على حدّ سواء لم تندمل بعد. لكن، لا بدّ من أن يتمّ في يوم من الأيام إجراء تقويم شامل للوضع. فما هو الثمن الفعلي الذي ترتب على مسددي الضرائب الأميركيين دفعه جرّاء الحرب؟ ما هي الحصيلة الحقيقية للقتلى والجرحى من الأميركيين ومن حلفائهم ومن العراقيين أيضاً؟ ما هي التقديرات المتعلقة بالأضرار المادية؟ من الذي يجب أن يتحمل مسؤولية تدمير بلد عربي أساسي؟ لماذا لم يتمّ تحديد هوية المحافظين الجدد الذين حضّوا على شنّ حرب ولم تتمّ معاقبتهم على رغم أنهم اختلقوا دلائل أظهرت أنّ صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل ومرتبط بتنظيم «القاعدة»؟ ما هو الدور الذي أدته إسرائيل على هذا الصعيد؟ ومن هي الجهة المسؤولة عن إطلاق شرور الطائفية القاتلة في العراق وعن بروز إيران كقوة إقليمية وعن إعادة تشكيل جيو- سياسي لمنطقة الخليج وعن الخطر المحتمل الذي تفرضه إمدادات الطاقة على العالم الصناعي؟ يجب أن ننتظر جيلاً كاملاً قبل أن نحصل على أجوبة وافية عن هذه الأسئلة، هذا إن طُرحت في ما بعد. يبدو أنّ نائب الرئيس الأميركي جو بايدن قد لمس خلال زيارته الأخيرة للعراق، والتي استمرت ثلاثة أيام، تراجعاً في النفوذ الأميركي على صعيد صناعة الأحداث. سيشهد شهر آب (أغسطس) نهاية مهمّة أميركا القتالية في العراق. وبحلول نهاية هذا الشهر سيتقلص عدد القوات الأميركية إلى 50 ألف جندي بعد أن وصل إلى 165 ألفا في ذروة عملية «زيادة عدد القوات». كما من المتوقع أن تنسحب أميركا بالكامل من هذا البلد في نهاية العام المقبل. ويبدو الرئيس باراك أوباما مصمّماً على تخليص أميركا من حرب طالما عارضها. لكن، لا بدّ من أن يتقلص نفوذ الولاياتالمتحدة في العراق بعد أن تسحب قواتها منه. فما الدور الذي ستؤديه أميركا حينها؟ ما الهدف من تشييد سفارة أميركية في منطقة محصّنة في بغداد مع العلم أن تكلفة بنائها بلغت 750 مليون دولار وأنها تمتد على مساحة 104 ألف متر مربع على طول نهر دجلة؟ تضمّ هذه السفارة التي تُعدّ من أضخم السفارات في العالم وأقلها ترحيباً وأكثرها بذخاً، حوالى 1200 ديبلوماسي وجندي وموظف حكومي من 14 هيئة فيديرالية. فهل تعتبر هذه الخطوة تفريطاً هائلاً بالموارد؟ أم أنها خطأ فادح آخر يُضاف على اللائحة الطويلة من الأخطاء التي برزت حين قامت مجموعة من المحافظين الجدد في إدارة جورج بوش الابن بانتهاز الفرصة التي وفرتها أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) لممارسة الضغوط كي تتمّ إطاحة صدام حسين، وهو الزعيم العربي الذي اعتبرت إسرائيل بأنه يفرض خطراً محتملاً؟ فيما تحاول أميركا تخطي العقبات والمشاكل التي تواجهها، لا يزال السياسيون العراقيون يتشاجرون مع بعضهم بعضاً ويحاولون استمالة مجموعة كبيرة من الأحزاب في البرلمان الذي يضمّ 325 عضواً، والذي نشأ إثر انتخابات آذار (مارس) الماضي، والتي اعتمد فيها نظام التمثيل النسبي. يبدو نوري المالكي رئيس الوزراء الحالي مصمّماً على المحافظة على منصبه على رغم أنّ المؤيدين له قد حصلوا على أصوات أقل من الأصوات التي حاز عليها المؤيدون لأياد علاوي وهو رئيس أسبق للوزراء. يرأس مالكي ائتلافاً شيعياً يدعى «دولة القانون» فيما يرأس علاوي ائتلافاً أكثر علمانية يدعى «العراقية» مع العلم أن أياً منهما لا يحظى بأكثرية مطلقة. وفي محاولة منه للحصول على الأكثرية، عقد المالكي صفقة مع مجموعة ثالثة هي الوفاق الوطني العراقي. إنه عبارة عن ائتلاف بين الصدريين (الشيعة المتشددين بقيادة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر) والمجلس الأعلى الإسلامي في العراق. وتكمن المشكلة في أنّ الصدريين والمجلس الإسلامي الأعلى في العراق لا يريدون المالكي رئيساً للوزراء. فهم يملكون مرشحين لهم لهذا المنصب. قد تكون الصفقة التي عقدها المالكي مع الوفاق الوطني العراقي مجرد مناورة تهدف إلى ممارسة الضغوط على علاوي حتى يدخل في ائتلاف معه يحظى فيه بالسلطة المطلقة. ولدى وصوله إلى بغداد يوم الأحد الماضي، تسرع بايدن في الإعلان بأنه «متفائل للغاية» بشأن الديموقراطية في العراق. فكان من الواضح بعد أن رحل أنه فشل في حضّ هذه المجموعات المتصلبة في رأيها على تشكيل حكومة. وفي الوقت الحالي على الأقل، لم يتمّ بعد خرق جدار الأزمة السياسية التي بدأت منذ أربعة أشهر أي بعد انتخابات السابع من آذار (مارس). يدّعي الشيعة بأنّ السلطة حق شرعي لهم بما أنهم يشكلون أكثرية في هذا البلد. إلا أنّ السنة سيثيرون المشاكل في حال تمّ استبعادهم بالكامل. فقد حكموا بطريقة أو بأخرى العراق منذ العشرينات أي عندما أنشأت بريطانيا هذه الدولة من ثلاث محافظات تابعة للدولة العثمانية ولغاية الاجتياح الأنغلو - أميركي العام 2003. يحظى ائتلاف علاوي «العراقية» بدعم سني، وهو بالتالي مرشح أفضل من ائتلاف «دولة القانون» بقيادة المالكي للترويج للسلام الاجتماعي والطائفي في هذا البلد المتصدع الذي يشهد أعمال عنف ويعاني عدم استقرار. فيما يتراجع نفوذ أميركا، يسعى المنافسون الإقليميون إلى أخذ مكانها. ويبدو أنّ الأميركيين لم يلاحظوا بأنّه من المتوقع أن تبلغ الصادرات الإيرانية إلى العراق خلال هذه السنة 7 بلايين دولار، أي سبع مرات أكثر من العام 2007 كما أنه من المحتمل أن تصل إلى 10 بلايين دولار. شاركت حوالى مئة شركة إيرانية في المعرض الدولي في البصرة في نهاية الشهر الماضي. ويتطلع بعض الزعماء المحليين إلى إقامة شراكة سياسية واقتصادية بين الدولتين ذات الأغلبية الشيعية اللتين تسيطران معاً على مخزون النفط والغاز. فهما قادرتان على السيطرة على سوق الطاقة الدولي. وخلال حفلة استقبال أقيمت في السفارة الأميركية في بغداد توجه بايدن إلى الزعماء العراقيين بالقول: «يجب ألا تدعوا أي دولة بدءا من الولاياتالمتحدة وصولاً إلى أي دولة في المنطقة من أن تملي عليكم مستقبلكم وأنا متأكد من أنكم لن تسمحوا بحصول هذا الأمر». قد يكون فات الأوان على تقديم نصائح مماثلة. فيقوم كلّ من العراق وإيران وتركيا وسورية وقطر والبلدان الأخرى بعقد الصفقات وبتشكيل الائتلافات خارج المدار الأميركي. وعلى رغم أنّ العراق لن يحظى ربما بحكومة جديدة، لا تزال الحكومة السابقة تعمل بشكل جيد نوعاً ما لا سيما في المناطق الأساسية التي تتطلب الأمن والتي تعتبر غنية بالنفط. يسيّر الجيش العراقي حالياً دوريات له في مختلف المدن من دون مساعدة القوات الأميركية. إلا أنّ ذلك لم يضع حداً للاعتداءات الانتحارية أو للجرائم السياسية والطائفية لكن يبدو أنّ حدة العنف بدأت تتراجع. دخلت مجموعات النفط الغربية والصينية السوق العراقية. ففي 29 حزيران (يونيو)، وافقت الحكومة العراقية على صفقة بإدارة شركة «شل» تقضي بتطوير بين 25 و30 تريليون قدماً مكعباً من مخزون الغاز من أصل أربعة مشاريع نفط رئيسة في محافظة البصرة. ويبدو واضحاً أن الأموال ستبدأ بالتدفق إلى العراق الذي سيتمكن من إعادة إعمار الدمار الذي خلفته الحرب. كما سيتم إيجاد صيغة سياسية لحكم هذا البلد. أما علماء التاريخ المقبلون فسيعتبرون الدمار الذي لحق بالعراق أحد أكبر الجرائم التي شهدتها بداية القرن الحادي والعشرين. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط