مثل بزوغ الفجر يكون ظهورها في أي وقت، وأي نقطة. تستطيع أن تراها وهي تدخل قاعة المحاضرات كحُلمٍ مارق، تحمل كتبها بجدية، تمر بين الصفوف لتصل إليه في الصف الأخير حيث يجلس دائماً. قبل أن تصل إليه بكثير يهب لملاقاتها، يحمل عنها كتبها، وأحياناً حقيبتها، ويخرج من مكانه لتدخل هي أولاً في المكان الذي جاء منذ الصباح الباكر لحجزه له ولها. تجلس، ويجلس هو بجوارها على رأس الصف مانعاً أي شخص آخر من الاقتراب من مملكتهما. إذا وقع نظرك على أحدهما ستجده شديد الانتباه للمحاضر، غير عابئ بمن حوله. أما إذا تلاقت نظراتهما فستذهل وأنت ترى مشاعرَ تعجز عن تفسيرها. يرهقها طول الجلوس، فيفسح لها الطريق لتقف بعض الوقت، وعندما تعود إلى مكانها يحاول ضبط الحشية التي تضعها خلف ظهرها، ولا تستقر عيناه في محجريهما إلا بعد أن يراها جالسة مطمئنة، وقد استقر الطفل في وضعه الطبيعي منها، وعادت للتنفس في شكل منتظم. بمجرد دخولها من باب الكلية، وحتى قبل أن تتمكن من ركن سيارتها، نشم نحن الفتيات رائحة خطاب جديد معبأ بأشواق الخليج. تقرأ وتنساب دموعها ودموعنا، ويجلس هو على مقربة منا يرقب انطباعاتها. هو لا يستمع إلى كلماتنا. يرانا فقط. يأتي أحياناً إليها، يتأمل ملامحها، ويكون على وشك أن يمد يده ليمسح دموعها لولا خوفه من رفضها القاطع. يقترب موسم الامتحانات، ومعه يقترب موعد وضعها. يزيد اهتمامه بها، لا يكاد يتركها تغيب عن عينيه، ويمكنك أن تشاهده وهو يحاول إقناع إحدانا بأن تقدم لها المساعدة في شكل ما، أو تسير معها وهي تنهي إجراءات إدارية في الكلية. يفعل ذلك خوفاً عليها من جهة، وخوفاً من غضبها من جهة أخرى إن أصرَّ هو على مرافقتها بغير إرادتها. في اليوم الأول للامتحانات، لا نكاد نتحدث سوى في الأسئلة المتوقعة. كنا نتقابل عند اللجان ونتساءل عنه وعنها، فيجيب أحد الزملاء بأنه ينتظرها في (الباركينج)، ليساعدها حتى تصعد إلى اللجنة. بعضنا يبتسم، والآخر ترتسم على وجهه علامة استفهام. كانت معي في لجنتي، رأيتُ كيف تظهر عليها آثار الحمل بشدة، من أنف تضاعف حجمه، وجسد فقدَ معالمه، وأصبح تَحرُكُه على وضعه القديم معجزة. وتساءلت: يا ترى كيف تراها عيناه في شكلها الجديد؟ رأيتُه وهو يوصلها، ويضع لها الحقيبة في مكانها من اللجنة، ويوزع أدواتها على المنضدة المخصصة لها، ويوصيها بأن تحافظ على نفسها - تذكرت أمي وهي تفعل ذلك معي وأنا في المرحلة الابتدائية - كانت دامعة الوجه، لكنها متماسكة، وبدأت تكتب ولم ترفع يدها إلا بعد انتهاء الوقت المحدد. لم أعرف متى انتهى من امتحانه لأني قبل أن أسلم ورقة الإجابة وجدتُه واقفاً على باب اللجنة، يشير لها أنه موجود لتطمئن. بعد أن سلَّمت ورقتها، دخَل، وحاول مساعدتها على الوقوف، فنظرت إليه نظرة يعرف معناها، فبادلني نظرة متوسلة تحركتُ على إثرها منومة. أعطيتُها ذراعي لتتشبث بها، وتقوم، وأثناء ذلك كان يقول لها كلمات مشجعة، ولا تغيب ابتسامته أبداً. يسألها ماذا فعلت في الامتحان، ويراجع معها الإجابة، ويصفق لها، ويخبرها أن لها جائزة. وعندما أردتُ الانسحاب، طلب مني أن أظل معها حتى يأتينا بطعام وحلوى، فهي ضعيفة، وربما لن تأتي إلى الامتحانات مرة أخرى. تعجبتُ من قوله، فأكّد لي أنها ستلد ليلاً على أقصى تقدير. جلستُ معهما نمزح ونأكل ونهرب بالحديث عن المستقبل، انهمرت في بكاء حاد وهي تحكي كيف أن زوجها يتهمها بالتقصير، وبأنها لا ترغب في اللحاق به. وللمرة الأولى، أرى الغضب بادياً على وجهه وهو يقول: لا يمكنك على الإطلاق أن تفعلي أكثر مما تفعلينه. ولكن عندما تسافرين إليه سينسى كل تلك الكلمات الحمقاء، وإن كنت أعذره حيث يعاني بعده عنكِ. ثم استعاد نفسه ثانية وهو يقول: المهم أن تكوني بخير، أنا خائف عليك، أنتِ طيبة أكثر من اللازم، لكنك ستحافظين على نفسك؛ أليس كذلك؟ لو حدث لكِ مكروه تأكدي أن كثيرين ستصبح الحياة لهم بلا قيمة. قال ذلك بانفعال مكتوم. كنا معها وهي تنتظر طائرتها. كانت تحمل طفلتها بيدٍ، وبالأخرى تجرُ حقائبها. كان يساعدها كالمعتاد، حتى إنه حمل عنها طفلتها. كان وجِلاً، دامعاً. كان وداعهما مؤثراً. سلَّمت علينا أولاً، وانتهت به. تمتم بكلمات لم نسمعها، وربما لم تسمعها هي أيضاً، ربما سمعته يردد مقولة أوسكار وايلد: «كل ما نريده يأتي إلينا ولكن بعد فوات الأوان». ثم رأينا قلبه يُفتح على مصراعيه، ويُخرج ظلَها في حرص شديد، ويُبقي الأصل. أراد هو ذلك، وأرادت هي، ورحل الظل بعيداً في أمان.