هناك أمور يمكن أن تبقى «بيناتنا» زمنا، إن طال أو قصر، تظل تنتظر الوقت المواتي والمكان المناسب حتى تنطلق إلى الفضاء العام، أو ربما تنفجر غصبا عنا من وطأة الكبت والكتمان. لا أريد هنا تفجير قنبلة. صحيح أن ما حدث قبل سنوات شكل صدمة قوية لي حينئذ، ولكن، بعد ذلك بوقت قصير، أدركت أنني كنت أعيش في كوكب من الجمال. كان ذلك في يومي الأول كمراقبة امتحانات الثانوية العامة. دخلت الغرفة وشعور التوتر يلازمني. أحسست وأنا واقفة أمام الطلاب كأنني نسيت كل شيء قرأته في الكتيب الذي كان معي، وما تلقيته من إرشاد وتعليمات قبل عدة أيام فقط. دخلَت مركزة المراقبين الى الغرفة وساعدتني في كتب ما يلزم على اللوح: التاريخ، موضوع الامتحان وما الى ذلك، ثم وزعت دفاتر الامتحان وأوراق الأسئلة. بدأ الامتحان على وتيرة هادئة، وكان الطلاب في الغرفة معيدين للامتحان، وعددهم خمسة فقط، جلسوا يتصفحون ورقة الأسئلة، يتأملونها طويلا بكل صمت وهدوء. بعد عدة دقائق، دخل طالب آخر الى الغرفة، والى جانبه رجل بدا وكأنه من أساتذته، سمعته يقول له مؤنبا: «كيف تتأخر هكذا على الامتحان؟ هيا ادخل واجلس بسرعة». فعل كما قال، فأعطاه ورقة الامتحان والدفتر واختفى من الغرفة. جلست في مكاني بمواجهتهم، تأملتهم وأنا أحرص على استمرارية الهدوء والصمت بينهم. استغربت كثيرا وأنا أراقبهم. مر أكثر من ساعة ولم أر أحدا منهم يكتب حرفا واحدا في دفتره. ما بهم هؤلاء؟؟ كأنهم ينتظرون الفرج في غير مكانه؟ تعجبت. راقبتهم بإمعان. في الجهة اليسرى من الغرفة، في الطاولة القريبة مني، جلست فتاة، ملامحها توحي بالملل واللامبالاة، جلست دون أن تكتب شيئا. نظرت الى ورقة الامتحان تارة، ثم أمامها تارة أخرى، حملقت عيناها في اللاشيء... ثم تأففت باستياء. وكلما انقضت الدقائق وهي جالسة هكذا دون عمل شيء، ازداد تأففها. أيكون الامتحان صعبا الى هذا الحد؟؟ فكرت بيني وبين نفسي، وأحسست بنوع من العطف والشفقة. وفجأة.. دخل رجل الى الغرفة مسلما علي بنظرة، ثم على الطلاب. فردوا عليه السلام بابتهاج غريب. لم أعرف من هذا الرجل؟! وماذا يفعل هنا؟ ولكن الطلاب بدوا كأنهم يعرفونه جيدا. وفي الدقائق التالية، أحسست كأنني ضيفة غريبة في مكان غريب! كانت بيده ورقة. فتحها وأخذ يقرأ منها بصوت خفيض: «السؤال الأول... الجواب ب. السؤال الثاني... الجواب ج. السؤال الثالث... الجواب هو كذا...». في البدء، كأنني لم أكن على وعيي، لم أحس بشيء. ماذا يجري؟ أين أنا؟ ومن هؤلاء؟ ماذا أفعل؟ وماذا يفعلون؟؟ جلست في مكاني والصمت يطوقني، كأن الصدمة جمدتني. لمحت بالمركزة لدى فتحة الباب، تراقب ما يجري في داخل الغرفة تارة، وفي خارج الغرفة تارة أخرى. وبعد دقائق، قالت للرجل: «يكفي هكذا». ثم خرج الرجل من الغرفة، وهي من ورائه. وبقيت وحدي مع المصيبة! بدأت وشوشات بين الطلاب، نظرات قلقة، همسات. طلبت منهم السكوت أكثر من مرة. قمت من مكاني وبدأت أتجول بين الطاولات، أطالب بالصمت والسكوت بشكل متكرر، وفي داخلي أحس كأنني كركوز يضحك على نفسه!. شعرت بالضيق والانزعاج. حاولت ألا أحدثهم بشيء ولا أرد على ملاحظاتهم وعتابهم لي، بل اتهامهم، بأنني لا أساعدهم! «نحن معيدون، لماذا لا تساعديننا»؟ قال لي أحد الطلاب. «هذا لا يجوز». قلت لهم. وطبعا لم يقتنعوا بكلامي. أحسست كأنني أعيش في كوكب آخر غير كوكبهم، حتى كدت أشك في نفسي. مرت الدقائق ومعها تضاعف التوتر في الغرفة وازداد تبادل الكلام والوشوشات. «الواجب أن تساعدينا»، سمعت الطالبة الوحيدة التي كانت في الغرفة تقول لي، «فمن يساعد الآخرين سيكافئه الله بأجر عظيم». وكانت تضع على رأسها حجابا يغطي شعرها، واستغربت بيني وبين نفسي: كيف لا تحجب نفسها عن خطيئة الغش والخداع؟ إلا أنه كان من الواضح أنها لا ترى أي خطيئة في تصرفها، ولا حتى سمعت يوما أحدا يتحدث عن خطيئة كهذه على وجه الأرض! وأخيرا.. انتهى وقت الامتحان. ظهرت المركزة الى جانبي، تلملم أوراق الامتحان وتمتمت كلاما لم أتبينه من شدة توتري وانزعاجي. ثم همست في أذني: «... آمال... بالنسبة لما حصل، لا داعي لأن يعرف أحد». قالت، ثم أضافت: «خليها بيناتنا». «ولكن ذلك لا يجوز». قلت لها بقلق بالغ. «صحيح، ولكن، في النهاية، هؤلاء الطلاب معيدون ونحن نحاول مساعدتهم فحسب». بعد أن عدت الى بيتي، واستعدت بذهني كل ما حصل وجرى، أحسست بمزيج من الأحاسيس بين الدهشة، والضيق، والقلق والحزن... والخوف. أحسست كأنني كنت شاهدة بل شريكة في جريمة لم أحرك ساكنا لمنعها. كيف سمحت لهذا الرجل أن يدخل غرفة الامتحان؟؟ كيف سمحت له أن يفعل ما فعل؟ لماذا لم أملك الجرأة حتى أقف بمواجهته وأقول له: «أخرج من الغرفة! مكانك ليس هنا»! عاتبت نفسي بشدة. شعرت برغبة في أن أنفني، أن تنشقّ الأرض وتبتلعني. في المساء، لم أقدر على كبت قلقي وحزني أكثر، فاتصلت بالمرشد الذي علمني برفقة مجموعة من المراقبين الآخرين عن قواعد المراقبة، وأخبرته بكل ما حصل. استمع الي باهتمام بالغ، ثم قال: «هذه المدرسة فيها بعض الفوضى. سأنقلك الى مدرسة أخرى أفضل ترتاحين فيها. ولكن... آمال... بالنسبة لما حصل... خلّيها بيناتنا»!.