«حديث كل جمعة هو، أين، ومع مَن سنصلي الجمعة؟» هكذا، صاح الرجل الباحث عن لآلئ الدعاة العزيزة اليوم، وتساءل بلوعة ووجل، فقلت له، أظنني، قد التقيتك الأسبوع الماضي في أحد الجوامع الكبرى بالقاهرة، فحدَّثتني الحديث نفسه، فنظر إلي باكياً، وهو ينوح: «إنني أتنقل بين المساجد، لأشم رائحة الشيخ محمد الغزالي (1917 - 1996م)، فارس الدعوة إلى الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، وأديب الدعوة، وخير من اعتلى المنابر، فصال وجال، وأثَّر في الناس، فاحتشدت له بالملايين، فغيَّر من طباعهم، وقوَّم اعوجاجهم، وردَّهم إلى الجادة، بخُلُقه، وعلمه، وورعه، وتقواه»! فاقتربت منه، فلمحت صدقه، وغَيرته على الدين الذي تاجر به بعض أبنائه، ممَّن تجرأوا على المنابر، وهم بلا بضاعة، ولا خُلُق، ولا دعوة! فقلت له: إذاً، أنت من تلامذة مدرسة الشيخ الغزالي، الحكيم، الخاشع، البكّاء؟! فردَّ بثقةِ المؤمن: نعم، ولكننا، فرَّطنا في علمه، ودروسه، فصار لنا ما صار، ممّا تسمع، وترى، وتشاهد، مما حاربه الشيخ قولاً وعملاً! فحسدته حسد العلم، المحمود! وقلت له: يا هذا، لَكَم، تمنَّيتُ أن أرى الشيخ الغزالي، وأن أكون من تلامذته، وأن، أحضر دروسه، وأن أستزيد من شجاعته، وبحار علمه، وفقهه التجديدي! فأمسك بيدي، وقال لي: تعال، لأقص عليك أقاصيص الشيخ، الجميلة، الخبيئة، العبقرية، بخاصة أن هذه الآونة، تمر عشرون سنة على وفاة الإمام محمد الغزالي، ولم يكتب عنه أحد شيئاً، وهو من هو في التجرد، والفراسة، والبصيرة! فهو المهموم بالدعوة الصادقة، من خلال مواقفه، ومؤلفاته التي راجت في كل آن، ك: «هموم داعية»، و «جدِّد حياتك»، و «عِلَل وأدوية»، و «خُلُق المسلم»، و «فقه السيرة»، و «سر تأخر العرب والمسلمين»، و «السّنَّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث»، و «تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل»، و «حصاد الغرور»، و «الجانب العاطفي في الإسلام»، و «يسألونك»، و «مئة سؤال عن الإسلام»، و «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم»، و «المحاور الخمسة للقرآن الكريم»، و «الإسلام في وجه الزحف الأحمر»، و «معركة المصحف في العالم الإسلامي»، و «كفاحنا الإسلامي في العصر الحديث»، و «الإسلام والاستبداد السياسي»، و «قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة»، و «دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين»، و «جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج»، و «كنوز من السّنّة»، وغيرها من المؤلفات القيمة. فأقبلت عليه بكل أحاسيسي، وما فيَّ من عاطفة، وفؤاد، لأعرف، كيف صار محمد الغزالي النجم الثاقب، والكوكب الدّرِيّ في سماء العالم الإسلامي في القرن العشرين. فقال الرجل: كان القرآن الكريم، شاغل الغزالي الأول، والمهيمن على حياته، وخلواته، فهو يردده، بل يعايشه في البيت، وفي المنام، وفي الطريق، وفي الصلاة، وفي العمل، وعند الطعام، وبعد الفراغ منه، وعند الخروج من البيت، وعند المجيء إليه، وفي القيام، والتهجد! باختصار، كان القرآن بالنسبة له، معايشةً، وواقعاً، فهو يحياه، وكأنه يتنزَّل عليه اليوم، تدبراً، وتلاوة، وفقهاً، وأحكاماً، وتطبيقاً، ومدراسة! لذلك، كان القرآن حاضراً على قلبه وجَنانه، فهو سهل الاستشهاد به، كأنه يقرأ من المصحف، فلا تستعصي عليه آية، ولا حكم! وهنا، تحضرني مقولة الدكتور محمود حمدي زقزوق: «لعل الشيخ الغزالي، كان أفضل مَن يستشهد بالقرآن، تأييداً لقوله، ورأيه، لأنه كان دائم المراجعة له، بالليل والنهار، لذلك، بزَّ خصومه، بدقة استشهاده بالآيات القرآنية في مواضعها». لماذا الغزالي الآن؟ ويقول تلميذ الغزالي: ولننظر إلى احتفاء الغزالي بالقرآن، ففي كتابه (نظرات في القرآن) يقول عن مهمة الداعية، وعن ضرورة تطوير الكتاتيب التي يتخرَّج فيها فرسان الدعوة إلى الله: «إن سياسة تحفيظ القرآن، بحاجة ماسة إلى مراجعة، لتحقق الغاية النبيلة منها، فنحن نريد بقاء التواتر الذي وصل به هذا القرآن إلينا، حتى يصل كذلك إلى الأجيال التي تخلفنا، لكننا نريد كذلك ألا تلتف حول القرآن هذه الجماهير المتآكلة به، النازلة عن خُلُقه، المنحرفة عن طريقه، التي تستوعب أحرفه تجويداً وترتيلاً، ولا تعي من وصاياه شيئاً، يرفع رأسها، أو يزكي نفسها! إننا نريد إشاعة الثقافة الإسلامية المنبعثة من هذا الكتاب العزيز، وتفقيه العامة والخاصة في روحه، وشرائعه، ومقاصده، وآدابه، ونريد أن تعرف الأمة المنزلة السامية للوحي الإلهي الذي اختصت به، والواجب الكبير الذي يفرضه عليها». وعن مشكلة الدين اليوم، ومتاجرة البعض به، افتئاتاً وجهالةً، وغروراً، من عند أنفسهم المريضة، ك: «داعش»، و «الإخوان»، والحشد الشيعي، و «الحرس الثوري الإيراني»، و «حزب الله»، والعلويين، والحوثيين، و «النصرة»، و «القاعدة»، وجيش الفتح، وطالبان، وغيرهم ممن نبتوا فجأة، بفعل شياطين الشرق والغرب، والإنس والجان، فيقول عنهم الشيخ الغزالي، كأنه يرى مصائبهم الكبرى، بحق الإسلام، والمسلمين، والناس أجمعين اليوم: «نحن نكلِّف الدين شططاً، حين ننتظر من كتابه الكريم أن يصنع المستحيل! والمشكلة ليست في ما يصنعه الدين، بذوي العاهات العقلية والروحية، وإنما المشكلة في ما تكون عليه حال الدين، إذا حمله أولئك المصابون التعساء؟ كيف يعرضونه مستقيماً هادياً، وهو يخرج من أنفسهم كما يخرج الشعاع من زجاجٍ مُحدَّبٍ مُلوَّن، لا تكاد تُبصِر على ضوئه شيئاً! إنَّ الله عز وجل يقول لنبيه (صلى الله عليه وسلم): (وكذلك نُصرِّف الآيات، وليقولوا درستَ، ولنبينه لقوم يعلمون) (الأنعام: 150). فالطوائف التي لديها صلاحية طبيعية للعلم، هي التي تتبين... أمّا التي تفقد هذه الصلاحية ابتداءً، فهيهات أن تتبين، وهيهات، أنْ يكون أصحابها مرشدين»! ويتهكم الشيخ الغزالي، بل يُقرِّع هؤلاء الرويبضة، فيقول بأسى بالغٍ: «وقد رأيت كثيراً من الناس، يدلفون إلى الدين من باب الخدم، ويخرجون إلى الدنيا كذلك من باب الخدم! هؤلاء، ليسوا قادة الدين: هناك نساءٌ يفشلنَ في الحب، أو يشبعنَ من الخطايا، أو تقع لهنَّ كوارث تقيم بينهنَّ وبين الحياة المُشتهاة حجاباً كثيفاً، فماذا يفعلنَ بأنفسهنَّ؟! يذهبنَ إلى الدير، وينذرن أنفسهنَّ لله إلى الأبد! وهناك، رجالٌ كذلك، طردتهم الحياة من ميادينها، فلجأوا إلى الدين، إذ لا ملجأ غيره! فإذا كان موظفاً، أُحيلَ إلى المعاش، عرف طريقه إلى صفوف المساجد! وإذا كان منكوباً في ناحية ما من دنياه، تحوَّل إلى الدين، يلتمس في رحابه متسعاً! وأبواب الإنابة لا تُغلَق في وجه محزونٍ يلتمس العزاء، ولا في وجه آيبٍ إلى الله عز وجل، ينشد حسن الختام! بيد أن قيادة الحياة إلى الله عز وجل، لا تستمد رجالها من هؤلاء وأولئك! إن الدين، قمة الكمال الإنساني، النابت في ربوع القوة والنور والحركة والعزم. والقرآن الكريم، كتاب يجيء إلى البشر أجمعين، ليبني قواهم على الحق، ولينشئ عواطفهم على الخير، وليجعل التعاون على البر والتقوى». تفريط الدعاة! ويتذكر تلميذ الشيخ الغزالي بعض المواقف الدالة من حياته العامرة بالنور والحبور في مجال الدعوة، فيقول: «في إحدى محاضرات الشيخ في السبعينات من القرن الماضي، فوجئ بورود سؤالٍ له عن حكم الغِناء، من رجلٍ مُلتحٍ، يعمل طبيباً بيطرياً»، فأجاب الشيخ ببديهته وذكائه العجيب قائلاً: «أخونا الطبيب البيطري، ترك تخصصه، الذي سيحاسبه الله عليه، والذي ننتظر منه أن يوجِد لنا حلاً لمشكلة غلاء اللحوم في العالم الإسلامي، بتربية المواشي والأنعام، وتسوَّل على موائد أهل الفقه! أرأيتم تفريطاً وجهلاً أعظم من ذلك؟». وفي يومٍ ما، سمع الشيخ طرقاً عنيفاً على باب بيته، فقام مسرعاً، وهو الطاعن في السن، ليفتح الباب، فإذا به، يجد شاباً ملتحياً، مفتول العضلات، يسد عين الشمس قوةً وضخامةً، وهو يصيح مذعوراً: «أغثني يا شيخ، أنا ملبوس، أنا ملبوس، أخرج الجِنَّ مني يا شيخ!»، فنهره الشيخ قائلاً: «البسه أنت، كما تلبَّسك هو، لماذا لم نسمع عن العفاريت واللبس إلا في بلادنا، ولم نسمع عنه في أوروبا، ولا أميركا، واليابان، ولا إسرائيل؟». مقولات رائجة وينتقد الشيخ محمد الغزالي التيارات المتأسلمة الراديكالية المتطرفة، فيقول: «توجد اليوم عصابة من المتعالين، تريد أن تُسَعِّر النار، وأن تصب الزيت في الفُرن الذي خمد لتعيد اشتعاله»! ويقول أيضاً عن ضرورة عدم التمذهب، وأهمية الانفتاح على المذاهب الفقهية، بحثاً عن مقاصد الشريعة، ومآلاتها، ومصالح العباد: «لا حرج عليَّ أن أقف في قلعة أبي حنيفة، وأنا أتحدث في نظام الزكاة، أو أقف في قلعة ابن تيمية، وأنا أتحدث عن نظام الطلاق، أو أقف في قلعة مالك، وأنا أتحدث عن نظام الأطعمة... إلخ. إنَّ أولئك جميعاً رجالات الإسلام، وخَدَم رسالته، ولا بأس عليَّ أن أصطحب عقولهم، في ما أواجه من قضايا... المهم عندي هو الإسلام الجامع، لا الرأي المذهبي»! وينتقد محمد الغزالي هذه الجماعات المتشددة، ويسل عليها سيف نقمته، فيقول: «وأعترف أن بعضاً ممَّن يتسمَّون (علماء الدين) عندنا، كانوا بلاءً على الدعوة في الخارج، كما كانوا بلاءً على الدين نفسه داخل البيت الإسلامي، والشارع الإسلامي... إنهم أنصاف متعلمين، يريد كل واحد منهم أن يكون المتحدث الرسمي باسم الإسلام، وزاد الطينَ بلةً، الادعاء الذي لا يسانده وعيٌ مكتمل، واستبحار مُعْجَب، كل واحد منهم كما قال الرافعي: «أبو حنيفة ولكنْ من غير رأي، ومالك ولكنْ من غير سُنَّة، والشافعي ولكن من غير أصول، وأحمد ولكن من غير رواية»! ويصل الداعية محمد الغزالي في تعريضه، وتبكيته، بالمتأسلمين، سبب نكبة المسلمين، والإساءة إلى مقدسات الإسلام في العصر الحديث، فيقول: «دين الله أشرف من أنْ يؤخذ عن أفواه الحمقى»!