عبدالحميد الأنصاري - الجريدة الكويتية يقول الشيخ الغزالي: قرأت كتيباً يقول فيه مؤلفه «إن الإسلام حرَّم الزنى، وان كشف الوجه ذريعة إليه، فهو حرام لما ينشأ عنه من عصيان» قلت: «إن الإسلام أوجب كشف الوجه في الحج، وألفه في الصلوات كلها، أفكان بهذا الكشف في ركنين من أركانه، يثير الغرائز؟ ما أضل هذا الاستدلال!». لعل كتاب الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله- "السُنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، الذي ظهر في بداية عام 1989، من أهم الكتب التي ظهرت في مجال تصحيح الوعي الديني في ميداني الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية، تأتي أهمية هذا الكتاب في تناوله لأهم قضيتين في الفكر الديني، هما: 1 - أنه لا حجية للحديث النبوي إذا تعارض مع العقل السليم أو العلم المقطوع به أو خالف المحسوس أو تنافى مع النص القرآني الصريح. 2 - لا سُنّة من غير فقه، بمعنى أن عمل الفقيه يتمم عمل المحدث فلا يستغني المحدث عن الفقه، وقد أحدث الكتاب حين صدوره ضجة كبرى وأثار جدلاً واسعاً وتم تأليف 14 كتاباً في الرد عليه عدا عن عشرات المقالات ضده، ولكن الكتاب طبع طبعات عديدة وانتشر انتشاراً واسعاً. يتألف الكتاب من مقدمة وعدد من المواضيع تعد نماذج تطبيقية لما جاء في المقدمة، ويقع في 160 صفحة وقد طبعته "دار الشروق" بالقاهرة، في المقدمة يذكر المؤلف الأسباب الداعية إلى تأليف الكتاب فيذكر من هذه الأسباب، قلقه من الجو الفكري الذي يسود ميدان الصحوة الإسلامية، وذلك لأن الحقائق الرئيسية في المنهاج الإسلامي لا تحتل المساحة العقلية المقررة لها، وأن القضايا الثانوية هي التي تسيطر على الأفكار، إضافة إلى شيوع الأقوال الضعيفة والمذاهب المعسرة حتى ظن الناس أن الإسلام إذا حكم، عاد إلى الدنيا التزمت والجمود، وزاد الطين بله أن قيل للشباب الساذج: نحن لا نريد أقوال الرجال ولا مذاهب الأئمة، نريد الاغتراف مباشرة من الكتاب والسُنّة، يقول الشيخ الغزالي "أنا أكره التعصب المذهبي، وأراه قصور فقه، وقد يكون سوء خلق، لكن التقليد المذهبي أقل ضرراً من الاجتهاد الضعيف في فهم الأدلة"، وينتقد الشيخ الغزالي الجرأة على الفتوى، ويقول إن من أسباب ذلك، أن الأزهر بمكانته وشمولية منهجة الفكري والتعليمي كان قادراً على علاج هذه الفتن، لكن لما ضعفت مكانته العلمية والتعليمية، خلا الطرق لأنصاف المتعلمين بتصدر القافلة، ومن جراء ذلك أنه انتشر الفقه البدوي والتصور الطفولي للعقائد والشرائع. نماذج للرأي والرواية: لا يمل الشيخ الغزالي تأكيده على فهم الكتاب أولاً، وأنه لا يمكن فهم السُنّة فهماً سليماً إلا بمعرفة الكتاب، وأن هؤلاء الذين اكتفوا بالسُنّة دون عرضها على الكتاب، وقعوا في أخطاء منهجية كبيرة، من ذلك أن الشيخ الألباني- المحدث الكبير- رحمه الله، صحح حديث "لحم البقر داء"، لكن كل متدبر للقرآن الكريم يدرك أن هذا الحديث لا قيمة له، مهما كان سنده، لأن الله تعالى في موضعين من كتابه، أباح لحم البقر وامتن به على الناس، فكيف يكون داء؟! ورفض أبو حنيفة، حديث "لا يقتل مسلم في كافر" مع صحة سنده، لأن المتن معلول بمخالفته للنص القرآني "النفس بالنفس"، وقاعدة التعامل مع مخالفيه في الدين ومشاركينا في المجتمع، أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فكيف يهدر دم قتيلهم؟! وبعض أهل الحديث يجعلون ديَّة المرأة على النصف من ديّة الرجل كما في بعض الأحاديث، ولكن هذا مرفوض قرآنياً، فالديّة في القرآن واحدة للرجل والمرأة، والزعم بأن دم المرأة أرخص، مخالف للكتاب، كما رفضت السيدة عائشة رضي الله عنها حديث "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" وقالت: أين منكم قول الله سبحانه "لا تزر وازرة وزر أخرى"، يؤكد الشيخ الغزالي أن للسُنّة شروطاً: ثلاثة في السند، واثنان في المتن: فيجب ألا يكون المتن شاذاً- وهو أن يخالف الراوي الثقة، من هو أوثق منه- وألا تكون به علّة قادحة- وهي عيب يبصره المحققون في الحديث فيردونه به، ومن هذه العلل القادحة في متن الحديث، أن يكون مخالفاً لحكم العقل أو نص الكتاب أو السُنّة المتواترة أو الحقائق العلمية أو المشاهد والمحسوس أو الوقائع التاريخية، يدافع الشيخ الغزالي عن الفقهاء ويقول: إنهم ما حادوا عن السُنّة، ولا استهانوا بحديث صحت نسبته وسلم متنه، وكل ما فعلوه أنهم اكتشفوا عللاً فردوها وفق المنهج العلمي المدروس، فقد كانوا يقررون الأحكام وفق اجتهاد رحب يعتمد القرآن أولاً، فإذا وجدوا ما يتسق معه قبلوه، وإلا فالقرآن أولى بالاتباع، وحيث الآحاد يفقد صحته بالشذوذ والعلّة القادحة وإن صح سنده، يشدد الشيخ الغزالي على أنه "لا فقه بلا سُنّة ولا سُنّة بلا فقه " وأن عظمة الإسلام إنما تكون بالتعاون بين أهل الحديث وأهل الفقه. معركة الحجاب «النقاب» يقول الشيخ الغزالي: قرأت كتيباً يقول فيه مؤلفه "إن الإسلام حرَّم الزنا، وأن كشف الوجه ذريعة إليه، فهو حرام لما ينشأ عنه من عصيان" قلت: "إن الإسلام أوجب كشف الوجه في الحج، وألفه في الصلوات كلها، أفكان بهذا الكشف في ركنين من أركانه، يثير الغرائز؟ ما أضل هذا الاستدلال! وقد رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- الوجوه سافرة في المواسم والمساجد والأسواق، فما روي عنه قط أنه أمر بتغطيتها، فهل أنتم أغيّر على الدين والشرف من الله ورسوله؟ وإذا كانت الوجوه مغطاة، فممَ يغض المؤمنون أبصارهم، كما في الآية "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" أيغضونها عن القفا والظهر! وقد قال تعالى "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" فلو كان المراد اسدال الخمار على الوجه، لقال: ليضربن بخمرهن على وجههن. المرأة والأسرة والوظائف العامة: يبدأ المؤلف هذا الموضوع بقوله: أكره البيوت الخالية من رباتها، إن ربة البيت روح ينفث الهناءة والمودة في جنباته ويعين على تكوين إنسان سوي طيب، وإلى جانب هذه الحقيقة فإني أكره وأد البنت طفلة، ووأدها وهي ناضجة المواهب، مرجوة الخير لأمتها وأهلها، فكيف نوفق بين الأمرين؟ لنتفق أولاً: على أن احتقار الأنوثة جريمة، وكذلك دفعها إلى الطريق، والدين الصحيح يأبى تقاليد أمم تحبس النساء وتضن عليهن بشتى الحقوق والواجبات، كما يأبى تقاليد أمم أخرى جعلت الأعراض كلأ مباحاً، يمكن أن تعمل المرأة داخل البيت وخارجه، بيد أن الضمانات مطلوبة لحفظ مستقبل الأسرة، فإذا كان هناك مئة ألف طبيب أو مدرس، فلا بأس أن يكون نصف هذا العدد من النساء، والمهم في المجتمع قيام الآداب التي أوصت بها الشريعة، فلا تبرج ولا خلاعة ولا مكان لاختلاط ماجن هابط، ولا مكان لخلوة بأجنبي، وقد ساء وضع المرأة في القرون الأخيرة، وفرضت عليها الأمية والتخلف، بل إنني أشعر أن أحكاماً قرآنية ثابتة أهملت كل الإهمال لأنها تتصل بمصلحة المرأة، منها أنه قلما نالت امرأة ميراثها، وقلما استشيرت في زواجها، وبين كل مئة ألف طلاق يمكن أن يقع تمتيع مطلقة، والتطويح بالزوجة لنزوة طارئة أمر عادي، والذي يثير الدهشة أن مدافعين عن الإسلام، وقفوا محامين عن هذه الفوضى الموروثة، لأنهم- بغباوة رائعة- ظنوا أن الإسلام هو هذه الفوضى! والجنون فنون والجهالة فنون. حضور النساء صلاة الجماعة في المسجد: الجماعة من معالم الدين، وبعض الفقهاء يرى الجماعة فرضاً للصلوات الخمس، لكن الذي عليه الجمهور أن الجماعة سُنّة مؤكدة للرجال، بينما يرى الظاهرية أنها سُنّة مؤكدة للرجال والنساء على السواء، ولكن الأمر يحتاج إلى تأمل فقد صح في السُنّة أن المرأة راعية في بيتها وهي مسؤولة عن رعيتها، ولا ريب أن شؤون البيت تحول دون انتظام المرأة في الجماعات الخمس، لذلك نرى أن حضور الجماعات مطلوب منها بعد أن تفرغ من وظائف بيتها، ولا يجوز لزوجها أن يمنعها من الذهاب إلى المسجد، وقد جاء في الحديث "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" والنبي- صلى الله عليه وسلم- جعل أحد أبواب المسجد خاصاً بالنساء، وقد بقيت صفوف النساء في المسجد طوال العهد النبوي والخلافة الراشدة، وربما قامت للنساء جماعات حاشدة لصلاة التراويح في رمضان، ومعروف أن اشتراكهن في صلاة العيد وسماع الخطبة، من شعائر الإسلام، بيد أن الازدهار الذي أحدثه الإسلام في عالم المرأة، أخذ يتعرض للذبول والتلاشي، فوضع حديث يمنع النساء الكتابة كي يبقين على أميتهن الأولى، ثم شاع حديث آخر يآبى على النساء حضور الجماعات كلها، بل طلب من المرأة إذا أرادت الصلاة في بيتها، أن تختار المكان الموحش المعزول، فصلاتها في سرداب أفضل من صلاتها في الغرفة، وصلاتها في الظلمة أفضل من صلاتها في الضوء! وراوي هذا الحديث يطوح وراء ظهره بالسنن العملية المتواترة عن صاحب الرسالة، وينظر إلى المرأة المصلية، وكأنها أذى يجب حصره في أضيق نطاق وأبعده، يرفض الشيخ الغزالي هذا الحديث ويعتبره شاذاً لمخالفته السُنّة العملية، إذ كان النساء يشهدن الجماعات مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الفجر إلى العشاء طوال 10 سنين، ولم ينصحهن بالبقاء في البيوت، ويختم المؤلف هذا الموضوع بقوله: قد أتت على المسلمين عصور ماتت فيها السُنّة الصحيحة لحساب التقاليد الاجتماعية، ولا تزال هذه المأساة باقية تتعصب لها بيئات لا تعرف إلا المرويات المتروكة والمنكرة، وبعد: فلا يتسع المقام لعرض بقية موضوعات الكتاب، ولعل في ما تقدم ما يدفع لقراءة هذا الكتاب المهم والمفيد.