قبل زمن ما، كان يمكن للقب «آخر السينمائيين اليساريين المحترفين» أن يكون من نصيب مخرج مثل أوليفر ستون، أو حتى مايكل مور، غير ان الاثنين بإفراطهما في تصوير أفلام ملتبسة ولا سيما حول ديكتاتوريين، بالنسبة الى ستون، أو حول أمور بدت أمام كاميراه غير مقنعة، بالنسبة الى مور، راحا يبدوان أبعد ما يكون عن اللقب، وربما عن الكلمة الأخيرة فيه، حتى وإن ظل لسينما كل واحد منهما طابع المشاكسة، لكنها مشاكسة بدت عنصرية تقريباً لدى مور، وتغض الطرف عن ممارسات وتحليلات سياسية لدى ستون (الذي بعدما جعل فيلمه عن مركز التجارة العالمي ملتبساً لا سياسياً، وبدت شخصية الرئيس الأميركي السابق بوش في فيلمه عنه مبهمة مثيرة أحياناً للتعاطف، ولم يتورع في فيلمه الأخير عن تقديم صورة عن الديكتاتور الفنزويلي تشافيز، كثير النفور من الفيلم ومبالغاته، لا من الشخصية نفسها)... وازاء هذا كله من الطبيعي أن يعود اللقب الى الانكليزي كين لوتش، الذي أثبت دائماً أن سينماه متمردة على قيم اليمين والسلطة والتاريخ الراسخة، وذلك في الوقت نفسه الذي تتميز بكونها سينما ممتعة مشغولة بحرفية فنية وحداثة لغوية لافتتين. الهدف والمتعة والحقيقة أن هذا المزج بين السينما «الهادفة» والسينما الكبيرة التجديدة دائماً، كان دأب كين لوتش منذ أفلامه الأولى التي بدأ تحقيقها منذ أكثر من ثلث قرن، ولسوف يعتبر من أجملها وأقواها فيلمه «حياة عائلية» وكان ثالثه بعد «يا للبقرة المسكينة» (1967) و «كيس» (1919)... الذي، من خلال قصة محددة عرف كيف يوجه سهامه في ثلاثة اتجاهات في آن معاً: المؤسسة العائلية، مفهوم السلطة ومؤسسة العلاج النفسي. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف كين لوتش عن الدنو من القضايا الكبيرة في أفلام شعبية، انما غير تبسيطية، ومثقفة انما غير نخبوية. وهو في اطلالته على تلك القضايا، عرف كيف يمزج نظرته الناقدة التغييرية، ولا سيما ازاء قيم المجتمع البريطاني، ببعض أبرز سمات الثقافة الشعبية وأطرها، من العمل النقابي الى رياضة كرة القدم، الى الذاكرة الجماعية، الى تفاقم أزمة الطبقة العاملة، الى شروخ التاريخ بين النظرية والممارسة، وصولاً الى صراع الأجيال... ولكن من دون أن يفوته أن يطل في الوقت نفسه على علاقة الأفراد بكل هذا العالم المتغير، حيناً، وأن تكون للفيلم طرافة ممتعة في حين آخر، وأن الحب جزء من هذا العالم الجميل. وهذا المزج الخلاق بين القضايا في مظهرها وأعماقها، هو الذي يفسر كيف أن مخرج فيلم ملحمي سياسي بامتياز مثل «الريح تهز حقل الشعير» (2006) الذي أرخ ليس فقط للمسألة الإرلندية، بل حتى للجانب المظلم وجانب جلد الذات لدى أصحاب القضية، هو نفسه مخرج فيلم طريف مثل «البحث عن اريك» (2009) يقدم لنا علاقة متخيلة بين رجل ينتمي الى الطبقة العاملة في بلدة انكليزية بليدة، ونجمه الرياضي المفضل (اريك كانتونا). وأن يكون هو المخرج الذي أطل على أزمة المراهقة (في «سويت سكستين» - 2002)، كما على الحرب الإسبانية ليقول لنا في «الأرض والحرية» (1995)، كيف ان هزيمة الجمهوريين كانت بفعل الخيانات المتبادلة بين اليساريين، أكثر مما كانت بفعل قوة اليمين الفاشستي... ثم يغوص أمامنا في صلب الصراع الاجتماعي اليائس والبائس الذي تخوضه الطبقة العاملة المسحوقة في بريطانيا الثاتشرية من خلال ثلاثية ربما تكون من أفضل ما حققته السينما الاجتماعية الأوروبية أوائل التسعينات، أي في زمن سنوات الفولاذ، الناتجة عن حكم السيدة الفولاذية التي تقول الحكاية انها هي من أعاد الاقتصاد البريطاني الى سكة السلامة. في أفلام الثلاثية (وهي تباعاً «ريف راف» - 1991 -، و «أحجار ممطرة» - 1993 -، و «ليدي بيرد» - 1994 -) قدم كين لوتش مساهمة أساسية في تحديد الفعل السياسي الثاتشري، من دون أساطير أو أوهام. سعفة ذهبية لقد قدمت سينما كين لوتش هذا كله، لكنها وصلت الى عالم النقابات والهجرة (في «خبز وورود - 2000 -) وإلى أميركا اللاتينية (في «أغنية كارلا» - 1996 -) أما نجاحه التجاري الأكبر فيبقى حتى الآن فيلم «الأجندة الخفية»، الذي دنا فيه من القضية الأم - بالنسبة اليه - القضية الإرلندية، انما على طريقته، وفي شكل «بوليسي» سرعان ما استكمله ب «الريح تهز حقل الشعير»، الذي أتى أشبه برد ملحمي على تشويقية الأول البوليسية. وبدا مستحقاً تماماً للسعفة الذهبية التي نالها في مهرجان «كان» قبل أربع سنوات.