عندما يقول الأقطاب اللبنانيون إنهم لا يرون حلاً قريباً لأزمة رئاسة الجمهورية فهذا يعني أنهم لا يريدون حلاً، إما لأنهم عاجزون عن ابتكار الحل، أو لأنهم لا يريدون، والسبب يعود إلى أن كلاً منهم يريد حلاً على قياسه، وهذا مستحيل. لذلك فإن الأزمة طويلة، ومعقدة، بل إنها تزداد صعوبة وتعقيداً مع مرور الزمن الذي لا يتوقف عن توليد الأزمات الإقليمية والدولية. هؤلاء الأقطاب – الزعماء اللبنانيون يدركون أنهم يخالفون أبسط معاني المسؤولية الوطنية، والواجب المدني. لكن لكل منهم سببه وعذره، وهو أنه أدلى برأيه، وقدم نصيحة. أي أنه برأ ذمته. ومعنى ذلك أنه يلقي المسؤولية على الآخرين، حتى إذا وقعت الكارثة يرفع يديه قائلاً: اللهم إني بلّغت. وفي هذا الوقت المستقطع من عمر لبنان الوطن، والكيان، والجمهورية، والشعب، يستمر توافد زائرين مسؤولين كبار من الشرق والغرب. وتحتفظ إيران بالمرتبة الأولى في دفتر التشريفات، مؤكدة حضورها شبه الدائم في بيروت، والجنوب، مكررة جملتها الأدبية: «بإذن الله، وبواسطة دماء الشهداء ستكمل المقاومة الإسلامية مقاومتها بوجه العدو الصهيوني وحاميه، إن كان في المنطقة أو في العالم». وإن احتاج الأمر إضافة نجدها في التصريح الأخير لمستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي أكبر ولايتي خلال زيارته الأخيرة للبنان (5/5/2016)، إذ أنه شدّد على أن «سورية وإيران ستحميان محور المقاومة والتي مركزها الأساسي في جنوبلبنان، لأن هذه المقاومة مصدر فخر للمسلمين والعالم العربي الإسلامي». وإذ يكمل المستشار الأعلى الطريق إلى دمشق حيث المقر الإقليمي لقواعد القوات الإيرانية العاملة في المحيط العربي، يجد ذراعي النظام مفتوحتين لضمّه، فيلقي عظة خلاصتها «إن إيران، قيادة وشعباً، ستبقى دائماً إلى جانب سورية، وستواصل تقديم كل الدعم الممكن لتعزيز صمودها، لأنها تدرك إن ما تتعرض له (سورية) من حرب إرهابية شرسة لا يستهدف سورية فقط، بل شعوب المنطقة برمتها». هذا الحضور الإيراني الكثيف، العالي المقام، وشبه الدائم في لبنان، بات يثير القلق في الأوساط اللبنانية عامة ولدى من بقي من مراجع رسمية تجد نفسها محرجة ومقيّدة بأحكام البروتوكول حين يطلب الضيف الأجنبي زيارة المرجع اللبناني على سبيل المجاملة، لا أكثر. ومع هذا الحضور الإيراني شبه الدائم في بيروت يعود إلى الذاكرة السياسية اللبنانية الوجود السوري العسكري باللباس المدني المكتمل بربطة العنق المميزة والموقعة بأشهر الماركات الفرنسية والإيطالية، وكلّها بعض من هدايا المرجع الذي يأخذ علماً بأن «سيادة العميد» آتٍ لزيارته، وأحياناً كان «صاحب السيادة» يأتي مباغتاً. ثم من لا يتذكر زائري «عنجر» من الكبار الذين كانوا يذهبون بمذكرات إحضار؟ وبيروت التي كانت عاصمة المدنيات، والحضارات، والثقافات، واللغات، والأذواق، والأزياء، والحريات، والعادات، والتظاهرات، والمهرجانات، تتحول، بالإكراه وبالإلزام، «عاصمة ثانية» لمن يحكمها من بُعد، ثم يأتي إليها ليلقي عليها ظلّه السياسي والعسكري الثقيل. حالياً تعود بيروت لتكون «عاصمة ثانية» للنظام الإيراني، بأثقاله وبعجرفته واستعلائه على من كان يعلّم المدنية، والحرية، والاستقلال، والشهادة، دفاعاً عن السيادة والكرامة. وعلى بيروت أن تتحمل فوق ما تحملت خلال العقود الماضية من أعباء أنظمة ومنظمات قريبة وبعيدة، كانت ثقيلة عليها، وكأن هذه المدينة– العاصمة تمثل أسطورة «طائر الفينيق» الذي يحترق ثم يعود ويُبعث من رماده ليعود ويحترق. هذه المدينة- العاصمة لبلادها وشعبها باتت حزينة على حالها وعلى ماضيها الذي لا يزال يقاوم الانهيار والاندثار، وهي تحاول أن تتصنّع الابتسامة علّها تستعيد ماضيها. ولطالما عاش لبنان وعاصمته على رافدين: العرب والغرب. وإذ يبحث اللبناني اليوم عن الرافدين فلا يجد منهما إلا ملامح عابرة. وها أن الربيع يحلّ في مدن لبنان وعلى شواطئه وفي ربوعه. ولا أثر لزائر سائح، ولا كوفية بيضاء في أسواق بيروت القديمة والمتجددة، ولا في الجبال. ولا في زحلة، ولا في ضهور الشوير، ولا في بيت الدين، ودير القمر. ولا في عاليه وصوفر وحمانا وبحمدون. ولا دليل سياحي يجول مع مواكب الوافدين من أوروبا، وأميركا، وأفريقيا، واليابان إلى صيدا وصور، وبعلبك، وإلى جبيل وطرابلس، صعوداً إلى أرز الرّب، وإلى الأعالي المطلّة على آفاق بلا حدود. شيء من الحنين إلى ماضٍ من لبنان لا تعرفه الأجيال الطالعة من العالم العربي، ولا من أجيال اللبنانيين المنتشرين في دنيا الاغتراب، وقد كانت لهم في أرض الأجداد أعياد وأعراس وبقايا بيوت شاهدة على أن هذا الوطن الضيق المساحة، الواسع الصدر، كان وفياً ومؤتمناً على تراث نضال عريق من أجل الحرية والديموقراطية، ومن أجل فلسطين، ومن أجل كل قضايا العرب المحقة، والباطلة... هذا الوطن الذي اسمه «لبنان» يذبل على مهل، وببساطة، أمام أهله، وأمام زائريه، من قُرب ومن بُعد، وتحت أنظار نوابه ووزرائه والمرشحين المرابطين في حصونهم ممتنعين عن التشريف بحضورهم إلى مجلس النواب لانتخاب رئيس منهم. ثم بقدر كبير من البساطة يقولون أن الحلّ ليس عندهم إنما هو في الخارج. ولا يأخذ أحد منهم في الحساب أنه إذا انتخب رئيساً لجمهورية لبنان سوف يُقال عنه أنه «صنيعة الخارج». فأي رئيس يمكنه أن يستحق لقب «صاحب الفخامة»؟ من مرويات التاريخ القديم أن الكيان اللبناني وُجد من أجل المسيحيين في الشرق المتوسط، على أن تنضم إليه الأقضية الأربعة من بلاد الشام، بمن فيها من طوائف ومذاهب إسلامية ومسيحية، على أن يكون النظام جمهورياً برعاية فرنسا العلمانية. ولذلك كان للبنان في العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي ثلاثة رؤساء من غير الطائفة المارونية، وهم أيوب ثابت (الإنجيلي) وبيترو طراد (الأرثوذكسي) وشارل دباس (الأرثوذكسي) وبعدهم الرئيس الماروني الأول حبيب باشا السعد الذي سبق إميل إده إلى رئاسة الجمهورية قبل أن يتولاها الشيخ بشارة الخوري الذي ارتفع في بداية عهده علم الاستقلال على «دار بشامون» في الجبل ثم على مبنى البرلمان والسرايا في بيروت. في ذلك الزمن كانت الوطنية اللبنانية، والعروبة، أفضل حالاً وأرقى قياساً على هذا الزمن. ومع ذلك لا بد من انتخاب رئيس لهذه الجمهورية التي تتفكك إدارتها، وتفقد هيبتها واحترامها بين مواطنيها وأمام العالم. وفي الانتظار يتردد في الشارع كلام بسيط، هذا بعضه: اللبنانيون يعرفون أسماء النواب المرشحين لرئاسة الجمهورية، وهم أربعة أو خمسة، وقد تمضي أشهر، بعد، قبل أن يُنتخب أحدهم رئيساً. وسواء كان ذلك الرئيس من المرشحين المعلنين، أو من سواهم، سوف يتردد هذا السؤال: لماذا لم يُنتخب فخامته من قبل؟ ثم: هل يستحق صاحب الفخامة والحظ كل ذلك العذاب، وكل الخسائر الفادحة التي أصابت لبنان الدولة والشعب والمستقبل؟.. لا بد من رئيس للجمهورية. والأمل أن يستحق لقب صاحب الفخامة. آخر عهد لبنان بانتخاب رئاسي ديموقراطي كان قبل نحو نصف قرن. ففي الصباح الباكر من يوم 17 آب (أغسطس) 1970 كانت قوات من الجيش والأمن الداخلي تطوّق «ساحة النجمة» في قلب بيروت حيث مبنى مجلس النواب. كان مجلس النواب في ذلك الزمن مؤلفاً من 99 نائباً وقد حضروا جميعهم في القاعة، ولذلك افتتحت جلسة الانتخاب قبل نصف ساعة من موعدها، وكان رئيس المجلس صبري حماده. وكان المرشحان سليمان فرنجية (جد النائب الحالي سليمان فرنجية) والياس سركيس (حاكم البنك المركزي). وبسرعة وانتظام افتتحت الجلسة ودارت صندوقة الاقتراع على النواب ال 99. وعند فرز الأوراق كانت النتيجة 45 صوتاً للياس سركيس، و38 صوتاً لسليمان فرنجية، وعشرة أصوات لبيار الجميل، وخمسة أصوات لجميل لحود (والد الرئيس الأسبق إميل لحود) وصوت واحد لنائب بيروت السني عدنان الحكيم. هكذا توزعت الأصوات في الجلسة الأولى فلم ينل أحد المرشحين نسبة الثلثين فكان لا بدّ من أعادة الانتخاب. وجرت دورة انتخاب ثانية، وبعد فرز الأوراق تبيّن أن العدد مئة ورقة، وكانت ورقة المئة مدسوسة، واعتبرت النتيجة لاغية. وكان لا بدّ من دورة ثالثة، وجاءت النتيجة خمسين صوتاً لفرنجية و49 صوتاً لسركيس. ووقعت رئاسة المجلس في مأزق دستوري نادر الحصول. إذ المطلوب دستورياً أن يحصل الفائز على نصف عدد أصوات النواب زائداً واحداً. فكيف يمكن شطر الصوت الواحد نصفين بين فرنجية وسركيس؟ وثار جدل عنيف داخل المجلس بين من يطالب بإعلان فوز فرنجية ومن يطالب بإعادة الاقتراع. وللحظات ساد الخوف من إشهار المسدسات داخل المجلس فالفائز بالرئاسة سليمان فرنجية قام عن مقعده في صف الوزراء واستدار نحو رئيس المجلس وقال له بلهجة لا تخلو من التحذير: «يرحم بيّك يا صبري بيك ما تعملها معي...». وفي تلك اللحظات كان رئيس الجمهورية الأسبق فؤاد شهاب يتابع مجريات الجلسة من منزله في جونيه، فاتصل برئيس المجلس صبري حماده، وقال له: - أتمنى عليك أن تعلن فوز سليمان بك فرنجية رئيساً للجمهورية. ورفعت الجلسة للعناق وتبادل التهنئة. * كاتب وصحافي لبناني