ربما لم يدر بخلد الإنسان في بداية الحضارة أن نتاجه من صناعات الخزف اليدوية، والتي استخدم فيها الطين، سواء كان وعاء أو بناء أو آنية طعام، سيكون لها شأن في يوم ما، وستخصص لها الجامعات المتقدمة أقساماً أكاديمية يرتادها الطلاب والمهتمون من كل أنحاء العالم وستؤسس لها جوائز دولية ومنافسات، يتسابق عليها الفنانون الذين يشتغلون على الخزف. الفنانة التشكيلية عواطف القنيبط، إحدى من نافسوا على هذه الجوائز المهمة، ونالت عدداً منها، مثل «الجائزة السنوية لفن الرسم والتصوير» في كلية الفنون الجميلة في واشنطن 2003، وجائزة «عبقرية السيراميك» في الفنون الجميلة من كلية الفنون والتصميم في واشنطن 2005. والجائزة السنوية من جامعة هاورد في واشنطن لطلاب الدراسات العليا لفن السيراميك 2006، و2007. وعلى رغم أن الفنانة حين اختارت دراسة فن الخزف واجهت الكثير من الاستهجان من محيط أسرتها الصغيرة، إلا أنها وجدت التفهم والتشجيع عندما بدأت في عملية الإنتاج المبدع والحصول على الجوائز العالمية من الخارج. وقالت عواطف القنيبط في حوار مع «الحياة» بمناسبة تدشين معرضها الشخصي، المقام حالياً في منزلها، إن الفنان في عالمنا «لا يزال لم يجد مكانة تميزه وليس هو محط التقدير، إلا حين يتم تكريمه بجوائز عالمية ويكون التقدير الحاصل له من عيون أجنبية تقدر الفن والإبداع». تفضل القنيبط «إقامة معارضها في بيتها، لأنها تحب أن توجد مع معروضاتها في المكان نفسه، وأن تعمل من دون قيود أو شروط وفي فضاء تحبه، «ليعكس روحاً أخرى للمعروضات». تقول إن القطع الخزفية المعروضة «تعكس بشكل تدريجي فكرة واحدة، تكمل كل قطعة أفكاراً أحب أن أدافع عنها وأعلنها. فمن إلهام الطبيعة كان للقمر نصيب وافر من العرض، تناولته بكل إشكاله وهالاته المضيئة والمعتمة، في حركته الشهرية وكيف يرمز إلى شخصية الإنسان، بوضوحها حيناً وازدواجيتها وما يصاحبها من تضارب حيناً آخر، وقلق وتلوث حتى وصل إلى السماء بأقمار اصطناعية، فلوثت الأفكار وقضت على التأمل وتلمس الجمال وبثت سموم العولمة الإعلامية، التي أدت لكثير من الانكسارات ولجمت حرية العقل والتفكير، وكأنما هي سلاسل تقيد حول الرأس واليدين وتجعل الإنسان ينكفئ على ذاته». ولم تكتف الفنانة بهذا التلوث، ولكنها أدت إلى انطفاء الزرقة في لون البحر وتغير ألوان الشجر. وتوضح أن هناك مجموعة من القطع المتسلسلة، التي تناولت فيها المرأة ككيان مهدور في المجتمع، تلف الخيوط السوداء وجهها الذي لا يميزه ملامح. حيناً تلتف الخيوط على الفم لتعكس تكميم أفواههن، وحيناً على محيط الرأس لتعكس تغييب عقلها. «وفي الغالب تجمع معروضاتي حالة «الاضطهاد» التي نعيشها جميعاً، فمن يجلس في الصفوف الأولى غالباً هم المسيطرون، ولكنهم في الغالب لا يأبهون بمن في المقاعد الخلفية». وتضيف قائلة إن زوجة السفير الدنماركي فاجأتها بتعليق حول هذه الأعمال قائلة «هذا الأمر لا يقتصر على الحياة في الشرق الأوسط، ولكنه قصتنا في كل أرجاء العالم». تجد القنيبط في العمل الخزفي «تناغماً بين الإنسان والطين. خلقنا من طين وسنعود إليه، فلا بد من الانسجام مع الأصل». وتستعين كثيراً بمن يضيفون رؤيتهم إلى العمل لأجل تطوير نفسها وخبراتها، موضحة أنها «استعانت برجل كبير في العمر ممن يمتهنون صناعة الخزف لتتعلم كيفية استخدامه للأدوات البدائية في إبداعه. وتلفت إلى أنها في عملها ترتبط بالطبيعة والماء والهواء والشمس والحرارة، وكيف يمكن للقطعة الفنية أن تكون مخرجاً لتكوينات الطبيعة، «وهذا يمدني بالاعتناء بقطعي وتعاملي معها بحنو بالغ، وكثيراً ما يكون لإيقاع الحركة المتصاعدة تأثير على صياغة الفكرة، التي أود التعبير عنها حين يرتبط الخيال مع الحقيقة ومع الصدق في التعبير». تتأسف الفنانة «لأن الناس لا تعطي نفسها لو القليل من الوقت للتأمل والصفاء الذهني وتأمل النفس من الداخل، أو تأمل الفن والاستمتاع بأي نوع من الفنون الذي يمكن أن يمنحنا روحانية عميقة، ويعظم إيماننا بالخالق ويرتقي بالذوق العام، ولكنهم لا يتوانون عن إضاعة وقت طويل من أجل حضور حفلة أو وليمة ولو منحنا أنفسنا هذا الأمر لأصبحنا أكثر صفاء، ولتكونت لدينا مشاعر وأحاسيس بمنتهى الرقي الإنساني». وترى القنيبط أن الحروف العربية تشكل أعجوبة، «حين يتم تطويعها لمصلحة العمل، فامتدادات الحروف وانثناءاتها والتواءاتها وشكل النقاط تجعلني وأنا أستعين بها وكأنما أتسلقها وأتثنى وأتلوى معها، يؤلمها كثيراً تغييبنا لتراثنا الإسلامي وعدم توظيفه في حياتنا العامة كما يستحق».