أغلب الظن إنها إحدى أكثر الجُمع التباساً واختلاطاً وارتباكاً. فأحد لا يعرف من يدعو من للنزول أين للاعتراض على من لصالح من ولماذا. فبينما مظاهر الحياة تجري بشكل اعتيادي، حيث الشوارع تكتظ بحمولتها من المركبات والبشر، والمقاهي تزخر بروادها الغارقين تارة في شاشات الدوري الإسباني والمنخرطين تارة أخرى في أحاديث السياسة والاقتصاد، وأماكن العمل الحكومية فيها ما فيها من عمالة زائدة وأخرى راكدة وثالثة جامدة، وميادين حافلة بمصريين يحملون من هموم الحياة ما يمنعهم من الالتفات خلفهم، تجري مظاهر حياة افتراضية من نوع آخر تحاول أن تعاود كرّة القفز من أثير العنكبوت المحدود إلى براح الميدان. سائق الأجرة العائد لتوّه إلى شرق القاهرة هرباً من ميدان التحرير صباح أمس الجمعة، قال مكفهراً مقطباً: «لن تطأ سيارتي أرض وسط البلد اليوم إلى أن تتصرف الداخلية مع ولاد ال... وعلى فكرة حتى لو الداخلية قررت ألا تتعرض لهم فنحن كفيلون بهم. هي نقصاهم أصلها!». «هم» الداعون إلى التظاهر يوم أمس في فعالية أطلق عليها نشطاء «فايسبوك» وحقوقيو «تويتر» وأذرع من جماعة الإخوان المسلمين وعدد من الأفراد ممن يصنفون أنفسهم تحت بند أنهم «معارضون» بدوا أشبه باللوحة السوريالية. ألوان متنافرة لكن متداخلة في لوحة سياسية واحدة تنضح بقدر هائل من تناقض الأهداف وتراوح الغايات وإن وجدت نفسها محشورة مع آخرين في خانة الميدان. لكن خانة الميدان الذي شهد أمس استنفاراً أمنياً وإغلاقاً لمحطة «السادات» وتوجّساً شعبياً، لم تحظ هذه المرة بما كانت تحظى به على مر السنوات الخمس الماضية بين عموم المصريين. فالمصريون الذين تطلعوا إلى الميدان بكثير من الرجاء في 2011، ثم وجدوا أنفسهم في غابة من التسييس والاستقطاب تارة باسم الدين وأخرى باسم الثوار في 2012 و2013، وأخيراً اعتبروه منصتهم نحو الإنقاذ وأداتهم من أجل البقاء. بقاء الإخوان في الخانة نفسها مع بقايا جماعات ثورية وأجنحة انتهازية وأخرى معارضة ورابعة لا تخلو من ضبابية ومراهقة سياسية حيث رغبة عارمة في التغيير في ظل غياب كلي للرؤية والبدائل وطروحات الحلول المغايرة للموجود، أعادت عموم المصريين أمس إلى صب الغضب الشعبي وتوجيه الحنق الأهلي على دعوات إغلاق الميادين ب «الحشود الغاضبة المعبّرة عن كل فئات المصريين وليس الإخوان فقط». قائمة انطلاق المسيرات «الغاضبة» - كما لخّصتها مواقع عدة يعلم الجميع إنها مواقع إخوانية الهوى والمنشأ والهدف، لم تخرج عن إطار المساجد التي كان الإخوان يتجمعون فيها في جمعهم المتلاحقة عبر انقلاب الإرادة الشعبية عليهم في عام 2013، بالإضافة إلى كنيستين وصف مغرّد إقحامهما ب «محاولة نفي وصمة الإخوان عن الدعوة إلى التظاهرات». وسيطر شعور يقيني لدى كثيرين بأن التظاهرات المدعو إليها أمس جاءت بمثابة قبلة حياة في العديد من الأجساد الإخوانية القابعة هنا وهناك. وهنا وهناك تداول المصريون في لقاءاتهم في يوم العطلة الأسبوعية القيل والقال على هامش القفزة الثورية. فمن صحوة مباغتة للنائب البرلماني الإخواني السابق محمد العمدة مغرداً «مش مهم نتائج جمعة الأرض. المهم أنها جمعت شركاء ثورة يناير (كانون الثاني) على مطلب رحيل النظام، وطالما اجتمعنا فقد أصبح النصر في مرمي البصر»، إلى حركة مفاجئة لصفحة «التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب» التي ماتت إكلينيكياً منذ أشهر طويلة وانتباه مفاجئ لفرصة ذهبية لإعادة القفز على الحياة السياسية وربما معاودة ركوب الأمواج الثورية حيث إعلان عن المشاركة في جمعة «الأرض هي العرض» و «على جثتي» و «عواد باع أرضك» مع إشارة خبيثة إلى «دون مزايدات، ودون عودة لخلافات ماض أخطأ الجميع فيها» و «وليسعنا حب وصالح الوطن فيما اختلفنا فيه من إصرارنا على التمسك بالإرادة الشعبية التي أفرزتها ثورة يناير المجيدة، ولا اختلاف في الهدف وهو إسقاط النظام»، إلى صدمة موجعة وكبحة مؤلمة للأجنحة الثورية وبقايا جماعات عدة وحفنة من ميول ثورية متفرقة استيقظت لتجد الجماعة وقد عاودت القفز على حلمها الثوري المستمر، تنامى يقين شعبي في التشكيك الثوري. وعلى الرغم من تراوح رد الفعل الشعبي تجاه ملف الجزيرتين، إلا أن الغالبية العظمى نأت بنفسها عن «حكاية النزول يوم الجمعة». البعض اعتبر أنها «هبل وسخف»، والبعض الآخر نظر إليها بعين الجد حيث تحليلات شعبية تراوحت بين «اصطياد في المياه العكرة» أو «وما علاقة نزولهم بما نواجهه من مصاعب العيش اليومية؟»، وفريق ثالث كان مقتنعاً بفكرة النزول لكن حين وجد الإخوان وقد حجزوا صف المقاعد الأمامية دشنوا هاشتاق «الإخوان نازلين إذن أنا مش نازل» وكذلك «الإخوان ولاد كذا». كما قرر فريق رابع التعامل معها من منطلق السخرية حيث أسئلة من نوع «هُمّا قالوا هينزلو ولا إحنا هنطلع لهم؟»، مع طرح خيارات مثل «لو عايز الجيش إللي يقبض عليك إنزل مدينة نصر، ولو تفضّل الشرطة إنزل ميدان التحرير. لكن ابعد عن الشوارع الجانبية ستات مصر منتظرين بالشبشب». وسواء نزل هؤلاء أو طلع أولئك، فقد أعادت أحداث يوم أمس بعضاً من الأضواء التي خفتت على كيانات بعينها. فمن الإخوان الذين وصفهم بعض المصريين ب «عتاة رياضة ركوب الأمواج»، إلى قوى كانت ثورية وفشلت بسبب انعدام الرؤية وغياب البدائل قبل خمس سنوات فأعادت الكرة بالأخطاء نفسها والضبابية ذاتها، إلى حركة «6 أبريل» التي رفعت شعارات الرحيل ومطالبات الإسقاط وطالب بعض أعضائها بأن يكون أحد قيادييها أحمد ماهر رئيساً لمصر، إلى الدعوة السلفية التي أفتت بتحريم التظاهرات، إلى حفنة من المثاليين والمثاليات ممن أدمنوا العبق الثوري والميدان الجامع للأطياف والحراك الشامل للحركات، وأخيراً وليس آخر شرائح واسعة من الشعب الذي ملّ هؤلاء وضجر من أولئك وأنّ تحت وطأة الدولار والصحة والتعليم والمواصلات في يوم الجمعة وبقية الأيام الممتدة.