على رغم تشابه الطقس البارد، وتطابق الشعب المكابد، وتقارب الإحساس الخائف، في استقبال المصريين لليوم الذي صار «العيد» الأشهر والأميز والأكثر إثارة للقيل والقال والأعلى جذباً لصب اللعنات أو طلب البركات، إلا أن مصر اليوم تختلف قلباً وقالباً، وشكلاً وموضوعاً، وجسداً وروحاً عن مصر في مثل هذا اليوم قبل خمس سنوات. موجة الطقس السيء هبّت زخات أمطار وسحباً ملبدة بغيوم رمادية وملايين هادرة تقبع في بيوتها اليوم تنتظر ما ستسفر عنه تهديدات الجماعات ودموع يذرفها ناشطون وأخرى يسكبها ثوريون وثالثة تفيض بها تماسيح، وذلك في مقابل استعدادات مؤسسات الدولة ومعها ترقبات جموع المواطنين، سواء المرابطين في البيوت أو المستلقين على سواحل البحر الأحمر أو المراقبين من الشرفات. وقبل أن تشرق شمس اليوم على استحياء لتغيب مجدداً وسط الضباب كانت الشوارع والميادين، الفرعية منها والرئيسة، قد تم تأمينها وتجهيزها تحسباً لدرجات شتى من ثورية محتملة، بدءاً باجترار نوستالجيا الثورة، مروراً بمحاولة انقلابية هنا أو قفزة «إخوانية» هناك أو عودة إلى الفوضى تحت راية «مكملين» أو «ثورتنا وهنكملها» أو «راجعين الميدان»، بحسن أو سوء أو رمادية نية. نوايا الجميع تبقى حبيسة الصدور، لكن مؤشرات النزول لأسباب تتعلق بالتظاهر والاحتجاج والاعتصام تؤكد أن الغالبية تسير في اتجاه مغاير. فمن تضامن كبير مع أهالي شهداء الشرطة الذين وقعوا في الأيام القليلة الماضية، وتفاعل أكيد مع الجهود الأمنية المبذولة لا سيما في شمال سيناء، وتآزر الأكثرية مع كل فرد أمن معرض للموت، وتخوف بعضهم مما قد يحدث بسبب دعوات يصفونها ب «الإخوانية» إلى التظاهر وما قد ينتج من ذلك من مواجهات مع الأمن أو المواطنين أنفسهم، تشير التوقعات إلى مشهد بذاته. فيتوقع أن يكون يوماً خالياً من المارة، به نشاطات شتوية بيتية، وحركة سفر ظهرت معالمها قبل يوم ويومين في اتجاه المشاتي على طول ساحل البحر الأحمر. أما الفضائيات فاستعدادها مختلف وتوجسها مترجم إلى مراسلين وكاميرات هنا وهناك حتى تكون في موقع الحدث وقت حدوثه في حال حدوثه، أو شاهداً على حدود شعبية النداء الثوري «الإخواني». لكن الحدود أشكال وأنواع، ومنها الحد المعلن من قبل جماعة تسمي نفسها «ثوار الغضب» (وهي من إفرازات جماعة «الإخوان»)، والتي أصدرت بياناً قالت فيه إنها «بفضل الله تعالى وعونه على أهبة الاستعداد والجاهزية الكاملة لإسقاط النظام بداخليته، ثم تقديم الجميع للمحاكمة باتهامات تتراوح بين الخيانة والعمالة والعداء وسفك دماء الأحرار وانتهاك أعراض الشرفاء». ومضى البيان إلى تأكيد أن «الشعب كله سينزل ضد الداخلية بسلمية وبمواجهة دموية» إذا بدأت الداخلية «بالعدوان»، مذيلين بيانهم بأن «كل من لزم داره في أحداث ثورة الغضب فهو آمن» أما من عدا ذلك «فحق علينا تطبيق حدود الله». حدود الله التي تلوح قواعد «الإخوان» بإيعاز من قياداتها المتناثرة بتطبيقها اليوم تواكبها حدود من نوع آخر وإن كانت من العينة نفسها. حدود الجالسين في البيت غير القادرين على النزول ضمن «الغضبة الشعبية الجارفة» و «المليونيات المصرية الهادرة» التي نشر عنها موقع «الحرية والعدالة»، إحدى الأذرع الإعلامية للجماعة، في إطار توجيهات: «تشغيل نور السيارة طيلة اليوم أثناء القيادة. النزول من السيارة الساعة الثالثة وضرب كلاكس. اركب المترو من الرابعة إلى الخامسة. أطفئ نور شقتك من السابعة إلى الثامنة. أغلق موبايلك من الثامنة إلى التاسعة». وكالعادة أتت إبداعات «الإخوان» الثورية بما لا تشتهيه الجماعة نفسها. موجات عاتية من السخرية تفجرت في أنحاء افتراضية وواقعية عدة، باتهامات لواضعي التوجيهات بتعاطي مواد مخدرة، إذ تتراوح التعليمات للجالسين في بيوتهم بين قيادة السيارة، وإطلاق آلات التنبيه، وركوب المترو، وهو ما وصفه بعضهم ب «عبث الابتكار». سيدة مسنة فوجئت بجارها الشباب يملي عليها الخطوات الابتكارية السابقة، فانتظرت حتى انتهى، ثم سألته بهدوء: «أنت مجنون يا ابني؟!». لكن الجنون نسبي، شأنه شأن استخدمات الهاشتاق. النسبية جعلت من «هاشتاق» إخواني المنشأ هو #لو-مافيش-حكم-عسكر مثار خلاف واختلاف وتنابز وانقسام. ففي حين رأى محبو الجماعة وأنصارها المتداولين للهاشتاق ساردين أنه لولا «حكم العسكر» لاستمتع الجميع بحلاوة الحياة، وشيوع الديموقراطية، وانتشار الرخاء، وتعميم الحريات، وامتلاء المساجد، وانقشاع الظلم، والقضاء على الفساد، أشار معارضوها إلى احتمالات مغايرة لسيطرة «الإخوان» مثل هيمنة الجماعات المتطرفة، وشيوع التفرقة بين المصريين، واستمرار الاتجار بالدين. ويبقى الأثير المصري الملتزم تعليمات الأرصاد بتوخي الحذر والبقاء في البيت، والداعم لقوات الأمن المنتشرة في الشوارع والمؤمنة للمداخل والمخارج، والمتابع لما يرد في نشرات الأخبار المتاخمة للمدافئ، والمراقب لما يبثه بعض مواقع التواصل الاجتماعي من إشاعات يروجها بعضهم عن إغلاق ميدان التحرير على رغم أنه مفتوح، وإلغاء ما تبقى من امتحانات نصف العام على رغم انها مستمرة، وتحويل شوارع مصر إلى مليونيات هادرة على رغم إنها خالية. فروق كثيرة بين مصر اليوم ومصر قبل خمس سنوات، كما يؤكد الأثير بأنواعه، ويشير الشعب بأطيافه، ويؤكد الميدان بجنباته، حتى وإن ظل الطقس بارداً والمعاناة سائدة.