لا توجد مفردة تلهج بها ألسن الساسة العراقيين هذه الأيام مثل مفردة «الإصلاح»، حتى غدت لها جاذبية سحرت الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس البنك الدولي معاً اللذين زارا العراق لدعم «الإصلاح» بمنحه 350 مليون دولار، فقط لتحقيق إصلاح لم تقدر عليه 800 بليون دولار أُهدرت خلال عقد من دون أن يظهر رصيف واحد بُنِيَ من هذه البلايين المهدورة في أي من مدن العراق. بل إن «الإصلاح» دفع رئيس البنك الدولي لكي يتدخل في شأن داخلي، حين طالب بمزيد من الدعم للحكومات المحلية التي أثبتت تجربتها في العراق أنها كارثة وأنها مصدر للّصوصية وهدر الأموال. مفردة «الإصلاح» أقنعت ملايين العراقيين بأن الإصلاح قادم. وأن مستقبل العراق أصبح ملوناً بألوان قوس قزح، وأن الأزمات ستنتهي، وأن الحل في حكومةٍ تدخّل الأميركيون في اختيار أفرادها ليكتمل الفصل الأخير من تدمير العراق سياسياً واقتصادياً. أطراف دولية وإقليمية كثيرة تجد نفسها متورّطة في الوضع العراقي فيما يتصاعد الخلاف على دور إيران، بعد أن تسرّبت معلومات بأن واشنطن تخلت عن سورية لإيران وروسيا لكنها لن تتخلّى عن العراق، ولذلك فهي تعود عسكرياً من بوابة الأنبار والموصل، وتدعم تغييراً لحكومة أكثر ولاءً لها. ولهذا السبب، نرى متغيرات في المواقف والأحداث كان يصعب توقُّعها. منذ أشهر والتظاهرات من أجل الإصلاح وضد الفساد تأخذ مكانها كل يوم جمعة. ثم انضم اليها مقتدى الصدر واستقبل عدداً من نشطاء التظاهرات، ومضى خطوة أبعد، حين شكّل لجنة لاختيار حكومة من خلال ترشيح وزراء خارج الكتل البرلمانية ممن لا تأثير لإيران عليهم وإنما للولايات المتحدة. وبالتوازي هناك مقرّب جداً من السيستاني أكد لي شخصياً أن آية الله السيستاني رفض طلبات لقائد فيلق القدس قاسم سليماني للقائه، وأن توتراً ملموساً بين مرجعية النجف وإيران يقود التطورات في العراق. وعلى هذا الطريق، سار الصدر الذي تلقى اتصالاً من سليماني للقائه في بغداد بعد مشاركة الصدر في التظاهرات، لكن الصدر رد عليه بأنه في النجف ومن يريد لقاءه يأتي الى النجف، وهذا يؤكد دعم السيستاني لخطوات الصدر الذي وصفه بيان صادر عن مكتبه بأنه قائد عربي، في إشارة واضحة إلى إيران. يمكن تفسير خطوة الصدر وتحالفاته الجديدة مع يساريين مقربين من الولاياتالمتحدة بأن الصراع ضد النفوذ الايراني قد امتد الى داخل التحالف الشيعي نفسه. وبإعلان رئيس الوزراء حيدر العبادي تشكيلة وزارية أنهى الصدر اعتصامه وطلب من مؤيديه الانصراف من حدود المنطقة الخضراء، بعد أن أكد أنه قادر على السيطرة على الشارع وأنه رقم لا يمكن تجاوزه، كما استعاد بعض مؤيديه السابقين الذين انشقوا عنه والتحقوا مع عصائب الحق وتنظيمات شيعية أخرى. الصدر إذاً هو الرابح الوحيد من هذه التظاهرات والاعتصامات. لكن مطلب تغيير الحكومة لا يحل الأزمة، ربما زادها اشتعالاً. فالضحية حتى الآن هي وزراء المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة وإلى حد ما الأكراد. فقد استبعد وزراؤهم في النفط والنقل والخارجية والتخطيط والإسكان والتعليم والصحة وغيرها، ومن المرجّح أن لا يتم التصويت على التشكيلة الجديدة، خصوصاً أن هناك غالبية متعاونة مع ايران لا تزال ترفض الاعتراف بهذه التغييرات. تبدو المعركة شبه حاسمة لإضعاف النفوذ الإيراني الذي يتمثل بالضغط لمنع تقليص نفوذ حزب الدعوة وهيمنته على القرار في العراق. فمن جهة، يمثل العبادي حزب الدعوة ومطلوب منه إبقاء القرار بيد الحزب، ومن جهة أخرى يخضع العبادي لتيارات قوية أصبح واضحاً التقاؤها في الهدف الأخير، فقد التقت أهداف المرجعية والصدر مع أهداف الولاياتالمتحدة ودول خليجية في إحداث تغيير وزاري يمتص اندفاعة الأزمة العراقية الى الهاوية، او يدفع بها الى الهاوية في تناقض مصالح عميق، فحكومة التكنوقراط المطلوبة تهدف من جهة إلى ان تكون نسخة أميركية جديدة لتغيير رؤوس في الطبقة الحاكمة منذ 2003، بعد ان انكشفت هذه تماماً من خلال الفساد ومن خلال عدم قدرتها على أداء سياسي مقبول، ومن جهة أخرى تهدف إلى إبراز وجوه ذات علاقات عربية بعيدة من ايران. كان مطلوباً من العبادي، كما كان مطلوباً من المالكي، تحقيق مصالحة وطنية وكان الدعم الأميركي والبريطاني للعبادي يشترط تحقيق هذا الهدف الذي ذكره لي مسؤول ديبلوماسي بريطاني كبير في بغداد بعد اشهر من تسلُّم العبادي. لكن، من الذي يعرقل المصالحة الوطنية التي اقتصرت في عهدي المالكي والعبادي على إطلاق سراح محكومين بتهمة الارهاب أو مجتثين وفق أمر اجتثاث البعث وقانون المساءلة والعدالة؟ ولسوء الحظ انهم جميعاً من المذهب السنّي، على رغم انهم لا يمثّلون فعلياً السنّة بقدر ما يمثلون أهدافاً أخرى. شمّاعة المصالحة علق تدهور الوضع الأمني على شماعة المصالحة الوطنية، لكن معظم من يدعو إلى المصالحة يعمل على تعطيلها وتحويلها الى ابتزاز دائم، أو ما يُعرف بسيف ديموقليس المسلط على رأس كل رئيس وزراء عراقي. فالصراع الخليجي- الإيراني لا يحل في اليمن أو في لبنان وإنما في العراق. لذلك فإن الدعوة إلى طائف عراقي أصبحت ضرورة اساسية لوقف العنف في العراق وفي المنطقة أيضاً. ولكي نحقق المصالحة لا بد ان نعرف ماذا تريد أطراف الصراع من العراق؟ وكيف يمكن تحقيق مصالح جميع الأطراف من خلال تحقيق مصالح العراق في الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي وعلاقات حسن الجوار؟ بعض القوى السنّية وداخلها بقايا حزب البعث، تطالب بالعودة الى ما قبل 9 نيسان (ابريل) 2003 وقد أصبح هذا المطلب الانقلابي مستحيلاً، خصوصاً ان قوة تنظيمات الحشد الشعبي مستعدة للموت من أجل منعه، وإذا كانت قوى أخرى تصر على رفع شعار تهميش السنّة، فإنها بهذا الشعار وممارسته تربك دورها واستقرارها في العملية السياسية وتطوير هذا الدور الى مشاركة فاعلة في صناعة القرار المتوازن، وإذا كانت بعض القوى الاقليمية تشعل ورقة السنّة فهي تحرق السنّة قبل غيرهم، خصوصاً ان القوى الشيعية حتى الآن لا يهمها شكل الدولة ولا الإعمار ولا الاستقرار ولا استعادة دور العراق إقليمياً ودولياً ولا تزال تطرب على وقع ما يحدث طالما انه يوفر لها ذرائع ومبررات، في مقدمها الادعاء بحماية الشيعة وتمثيلهم وممارسة السلطة والاستحواذ على المال العام والتمتُّع بامتيازات الحكم أياً كان شكله أو وضعه. في جولة لي في شباط (فبراير) الماضي في العراق حاملاً لمشروع تأسيس هيئة مستقلة للمصالحة الوطنية مشرعة من قبل البرلمان، التقيت أطرافاً عراقية وإقليمية ودولية في العراق، دينية وسياسية وحاكمة، لكنّ أياً من هذه الأطراف لم يرحب بالمشروع بمن فيهم من يطالب بتحقيق المصالحة الوطنية، الأمر الذي يوحي بأن الجميع مشارك في وضع متوتر هو أحد صنّاعه والمستفيدين منه، وهذا ما يفسّر إبعاد الذين يسعون للمساهمة في الإصلاح والتغيير والاستقرار. اليوم علينا الدعوة الى طائف عراقي، طالما أن معظم الأطراف العراقية مرتبط بإرادات إقليمية واضحة جداً ولا مبرر لإنكار هذه الحقيقة، كان لبنان كذلك في ما مضى وطاف به طائف لينهي حرباً دموية. هذا لا يعني ان أزمة لبنان قد حُلّت ولكن على الأقل أصبح البرلمان والنشاط السياسي ميداناً لها على رغم أزمة الرئاسة الأولى وغيرها. إذا كانت السياسة فن الممكن، فإن العراقيين غير قادرين على صناعة الممكن. لأن الممكن ليس هو الواقع وإنما تغييره بالمساهمات والتنازلات المتبادلة والتفاهمات ليصبح ممكناً عبر صناعة فن الممكن. إحدى أهم مشاكل العملية السياسية انها أصبحت مغلقة على اشخاص يمثلون قوى عراقية وإقليمية ودولية لا تتغير، كأن قائمة أعدّت ولا يمكن اختراقها، وواضح أن إلغاء هذه القائمة ورفع القيود الانتخابية والسياسية التي تبدو مثل قائمة سوداء، وتسهيل دخول عناصر اخرى في العملية السياسية ستساهم في تعديل ميزان القوى، وستعطي نتائج مغايرة في الانتخابات. إذ ليس صحيحاً في شكل مطلق، ان الشارع العراقي يحدد حجم ونفوذ القوى السياسية. فالعوائق الموجودة اصلاً في العملية السياسية هي التي تساعد الشارع في هذا التخندق. تعاني المنطقة برمتها من تدهور مريع في الاستقرار والموارد المالية والبشرية والثقافية. كما أن الوضع العراقي، بقدر ارتباطه بالمنطقة، يتجه بعيداً عن التوجُّهات الإصلاحية المطلوبة، في عملية سياسية وصلت الى طريق مسدود مكلل بكشف فضائح عالمية جديدة مثل فضيحة الرشى النفطية وفضيحة الأموال الهائلة لبعض السياسيين العراقيين بعد تسريب ما عُرِف ب (أوراق بنما)، فضلاً عن تعمُّق الأزمات الوطنية والاقليمية بسبب قيامها على إرثين، الأول هو طبيعة الفكر السياسي العراقي التقليدي الذي يقوم على تفوُّق السياسة على القانون وعلى الاحتكام لشروط السلطة وتقويض شروط الدولة والعقلية الحزبية التي تزدري من هو خارج الأحزاب وتنتهك حقوقه الطبيعية. أما الثاني فهو إرث المحاصصة وبروز التوجهات الطائفية في السياسة لدى مختلف الاحزاب والكتل البرلمانية مضافاً لذلك انشاء مؤسسات هشّة ومشوهة لديموقراطية متعثّرة بين الشكل والمضمون. إن حلولاً ترقيعية ستطيل أمد الأزمة وتعمّقها. لكنّ حلولاً واقعية يمكن تحقيقها من الآن حتى موعد الانتخابات القادمة، تبدأ بتشكيل لجان وطنية نزيهة ومختصة وذات أفق سياسي واقعي وديموقراطي تقوم بإعداد سلسلة من التشريعات الإصلاحية، تبدأ من تعديل قانون الانتخابات وتمكين الناخب من اختياراته وتفعيل تمثيل النائب لمنطقته، إلى تجريم التصرفات اللاقانونية وضمن ذلك تجريم الفساد في القضاء. قوى جديدة تظهر في الخريطة العراقية قوى جديدة أعطاها الحشد الشعبي ودوره في قتال «داعش» نفوذاً بدأ يعبّر عن نفسه في مطالب مرتفعة، مثل تغيير النظام السياسي من برلماني الى رئاسي كما طالب بذلك الأمين العام لعصائب الحق، لكن السؤال الأهم هو دور هذه القوى المسلحة التي تعد بالعشرات في المرحلة السياسية المقبلة سواء انحسر «داعش» أم بقي؟ خصوصاً أن هذه القوى تسعى الى دور سياسي في انتخابات عام 2018 بعد أن كرّست دورها المسلح؟ الحل الممكن أمامها هو إعلان نفسها منظمات سياسية، مثلما فعل تنظيم فيلق بدر، بالمشاركة في الانتخابات والحصول على مقاعد برلمانية وحقائب وزارية لتصبح جزءاً من الصراع السياسي والمحاصصة، وبالتالي قطع الطريق أمام صعود اية قوى مدنية منتظرة، وبقدر ما سعت واشنطن الى الحد من النفوذ الإيراني ستجد نفسها أمام تصاعد في هذا النفوذ. لا ينكر أن مواقف عربية ظهرت منذ سقوط صدام حسين، ساعدت ايران في التمدُّد في العراق مدعومة بجغرافيا سياسية قوية وبتاريخ دامٍ من الصراع سواء في عهد الشاه، القصف المدفعي المستمر على المدن الحدودية فوق بغداد منذ 1969، أو في عهد الجمهورية الاسلامية الذي صبغ بالحرب العراقية- الايرانية المدمّرة لثماني سنوات، إضافة للسياسة الحمقاء لصدام بتجفيف الأهوار ودفع آلاف العائلات والعشائر الى ايران بعد موجات تهجير بدأت منذ 1969 وتوّجت بحملات 1980 الشهيرة استعداداً للحرب وتزويد ايران بقدرات بشرية مستعدة لمحاربة صدام، وتجربة فيلق بدر واحدة من أكبرها، إذ تشكلت من أسرى الحرب في ما عرف باسم «التوابين» امتداداً لتوابي حركة المختار الثقفي بعد قتل الحسين بن علي. كان صدام يغذّي ايران بمستقبلها في العراق بعد 2003، فقد دفع إليها مئات الآلاف من العراقيين من منطقة العمارة والبصرة ليعيشوا على الأرض الايرانية في معسكرات اللاجئين لأكثر من عشر سنوات تمكّنت ايران خلالها من مد نفوذها بينهم وكسب ولائهم ليعودوا بعد 2003 وهم مؤهلون للحلول محل آلاف المعارضين العراقيين من القوى السياسية العراقية التقليدية. في مؤتمر المعارضة العراقية الأخير في لندن في كانون الأول (ديسمبر) 2002 والذي عُقد في سياق التحضيرات للحرب كان عبدالعزيز الحكيم ممثل المجلس الإسلامي الأعلى أقوى شخصية تطلّبت جهوداً من ممثل واشنطن خليل زلماي زاد وآخرين لإقناعها ببعض قرارات المؤتمر، كانت واشنطن حريصة على إرضائه لأنها من خلاله تُرضي غيران وبالتالي تعطي للحرب شرعية عراقية، كانت فكرة تقسيم العراق إلى ثلاث سلطات في الواقع فكرة لتقسيم العراق في الواقع اليومي حتى اذا لم تتحقق على الأرض. رضي الشيعة والأكراد بما حصلوا عليه من مغانم وبقي السنّة، لأن النظام كان قائماً واعتُبر ممثلاً للسنّة وهذه من أكبر الأخطاء التي تم الاقتناع بها في ذلك المؤتمر، ومع الأسف لم تبذل دول عربية دوراً في سد هذا الفراغ الذي استغل إلى حد الآن، وما عمّق هذا الفراغ هو تشكيل مجلس الحكم بغالبية شيعية وظهور رجل دين شيعي لإلقاء بيان المجلس الذي أعطى انطباعاً بانتهاء دور السنة، وهذا الخطأ الذي جلب السعادة للشيعة كان مقصوداً من جانب بول برايمر الذي بدا دوره وكأنه الانتقام، وليس بناء نظام سياسي ديموقراطي مستقر. ما حدث لا يمكن أن يكون عائقاً أبدياً، ولذلك تصبح الدعوة إلى طائف عراقي ضرورة قصوى، طبعاً لا يمكن للأشخاص أنفسهم ان يقوموا بهذا الدور وحدهم، إذ من الصعب جداً أن يتحلّوا بهذه القناعة لأن سجلهم السياسي غير مقبول عراقياً ولا يمكنهم كسب ثقة الشارع، وهو الأهم في تطبيق نتائج مثل هذا الطائف، الذي يمكن أن يستغل سنتين باقيتين حتى الانتخابات القادمة للعمل على إصلاحات تشريعية وسياسية وثقافية تمهد لتوازن مستقبلي. ليست المشكلة في تغيير الوزراء. فالقوى السياسية الحالية فاشلة تماماً في أداء وظائفها السياسية. وهي في الحقيقة تحولت من قوى سياسية الى قوى تجارية طفيلية تعتاش على أموال الدولة. فهي تعمل بأموال الدولة من دون ان توظّف أي رأسمال منها وتسرق أموال الدولة باسم مقاولات ومشاريع معظمها وهمي وباسم منافع اجتماعية، كما ان كل كتلة تعقد صفقات للدولة باسم الدولة، لكن الحقيقة أن الأرباح ليست للدولة وإنما لتلك القوى التي لا تعير أهمية لأي معايير وطنية ودينية وأخلاقية. ليست الأزمة العراقية عراقية بقدر ما هي أزمة اقليمية ودولية تحتاج الى تفاهمات جديدة، لا تنتمي إلى تلك التي انطلقت عام 2003 وقادت الى هذا التعقيد في أزمة العراق. * كاتب عراقي