وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    «موديز» ترفع تصنيف السعودية إلى «Aa3» مع نظرة مستقبلية مستقرة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظام سياسي أم أسلوب علاقات :هل يخرج العراق من غرفة الإنعاش؟
نشر في الحياة يوم 15 - 08 - 2015

لطالما دفع العراق ثمن الجيوبوليتيك على مرّ تاريخه. الديموغرافيا البشرية تحددت منذ عهد بعيد في هذه البقعة من الأرض، فهو خلاصة لجيرانه قومياً وقبلياً ودينياً ومذهبياً واجتماعياً. وهو جسر للنزاعات بين الخليج وإيران وساحة للصدام بين العرب وأول حضارة مجاورة احتكوا بها قبل الإسلام. ومن الناحية الثقافية، لا يزال العراق يعاني من نزاعات وأزمات تعود إلى الجذور الثقافية التي صنعت شخصية الفرد العراقي ومخاوفه.
هذه المقدمة تفسير لورطة العراق المستمرة، فالعرب يريدونه بوابة شرقية ضد إيران. والإيرانيون يريدونه امتداداً طبيعياً لتاريخ قديم جداً منذ عهد بابل وسوسة. والأتراك يريدونه عثمانياً، بما في ذلك الولاء المذهبي، وبالتالي فان إحياء النزاع الشيعي السني سيكون مناسباً لهذه الرغبة.
لكن البروتستانتية انتصرت وأصبحت دولاً. ولم تنهزم الكاثوليكية رغم حرب المئة عام وحرب الثلاثين عاما والمذابح الشهيرة.
في العام الماضي وبعد سقوط الموصل، رحبت كل الدول، المتعادية في ما بينها، برئيس الوزراء العراقي الجديد حيدر العبادي. وفي رأيي كان اكثر الرؤساء العراقيين حظاً، لكن أنيطت به مهمات بعضها ممكن تحقيقه وبعضها يدفعه إلى أن يحاول مسك العصا من الوسط، وبعضها الآخر يدفعه إلى الانحياز ضد هذا الطرف أو ذاك.
ويعاني العبادي المشكلة نفسها التي أوقعت المالكي في صناعة الأزمات. فهو محكوم بفريق عمل حزبي غير مهني سياسياً وإدارياً، سبب للمالكي من قبله، أزمات كثيرة وصعّد تحدياته واستعدى جميع القوى وتنصل من كل الاتفاقات. فعلى سبيل المثال، أضاع في نيسان (أبريل) الماضي موظف صغير في مكتبه فرصة لتحسين العلاقات المصرية- العراقية خارج الإطار الرسمي حين اتصل بي سائلاً عن الموضوع بتكليف من العبادي نفسه، فقرر على الهاتف مباشرة وبعد منتصف الليل، أن الأمر ليس مهماً.
وفي قضية مشابهة، أخبرني أحد الوزراء الأسبوع الماضي أن السفير المعين على حصته في إحدى الدول الأوروبية المهمة، هو أكفأ الدبلوماسيين العراقيين، في حين أنني كنت وسيطاً لمشكلة بين السفير وبين الجالية العراقية أقامت فيها السفارة دعوى على ممثل الجالية لأنه رفض إهانته من موظفة في السفارة. والسر يكمن في أن هذا السفير يرعى أعمال ذلك الوزير التجارية.
هذا يكشف الاختلاف العميق في المفاهيم، فما هو مرفوض من الشعب مقبول لدى السياسيين، وأكثر من ذلك، فان المطلوب هو ما يقومون به، بغض النظر عن رفض المواطنين له. هذه هي العلاقة بين النظام والعراقيين.
أما المثال العام على هذه العلاقة المتناقضة فهي مشكلة الكهرباء، إذ تبدو الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية عاجزة تماماً حيال تفاقم مشكلة الكهرباء التي تصاعدت الاحتجاجات بشأنها إلى حد إطلاق النار على المتظاهرين في البصرة. وتعجز الحكومة عن توفير الرواتب والأجور لملايين العراقيين مثلما تعجز عن حل مشكلة النفايات حتى في المدينة المقدسة للشيعة وهي النجف، بينما لم يتوقف الفساد ونهب الأموال والممتلكات العامة.
مشكلة كردستان
وأمام هذه المشكلات يبرز إقليم كردستان على أنه المشكلة التي تتعقد يوماً بعد يوم. فالإقليم صعّد نزعته الانفصالية في كثير من الإجراءات، بدءاً من تصدير النفط والاحتفاظ بريعه، وانتهاء بالتبشير على أعلى المستويات بأن العراق انتهى مع صورة لقائد كردي ظل جالساً بعناد واستخفاف، بينما يقف الجميع أثناء عزف السلام الجمهوري العراقي في ازدراء رخيص للرمز الوطني.
بعد أقل من عام على رفعه بحملة تأييد محلي وإقليمي ودولي، يواجه العبادي مشكلات مع الجميع، مثل سلفه المالكي، فالتحالف الوطني الذي ينتمي إليه يتهمه باتخاذ قرارات دون الرجوع إليه. أما تحالف القوى السنية فقد جال مع أياد علاوي على السفارة الأميركية وممثلية الأمم المتحدة شاكياً العبادي وطالباً إطاحته. ومن الواضح أن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي يعيق إجراءات العبادي وقرارته ويعرقل التخلص من آخر قراراته في أواخر أيامه رئيساً للوزراء، وخاصة في مجال تعيين رجال المالكي في مناصب مهمة مثل البنك المركزي وأمانة مجلس الوزراء. ولا يزال الصراع سياسياً على الحصص والمغانم دون وجود أي مطلب بتحسين الخدمات أو إعادة بناء الدولة أو الاتحاد ضد «داعش» التي قسمت العراقيين على الهوى السياسي والطائفي والمناطقي.
أما المصالحة الوطنية فلا أحد يؤيدها. وحين عرضت مقترحاً يخص المصالحة الوطنية على إحدى الكتل السياسية لتتبناه، طلب أحد قادتها أن أغير المصطلح إلى الوحدة الوطنية. فلا الشيعة يرون فائدة في مصالحة تضعف أغلبيتهم. ولا السنة يدعمون مصالحة تنهي شعارهم بتهميش السنة. ولا البعثيون يوافقون على مصالحة تعترف بانهيار نظامهم. أما الأكراد فهم غير معنيين بها و يستضيفون قوى وشخصيات ترفض المصالحة أصلاً.
كما أن الولايات المتحدة لم تقم بأي جهد حقيقي لإنجاز المصالحة. بل أنها لم تتجاوب مع مشاريع للمصالحة قُدمت لها على رغم أنها تشترط المصالحة على كل رئيس وزراء عراقي، فهي تستخدمها لإضعاف مواقف الجميع ولإبقاء التوتر قائماً في الحياة السياسية العراقية.
في خضم هذه الأزمات يصب العراقيون جام غضبهم على الأوضاع وعلى الطبقة السياسية من خلال فايسبوك. وتأخذ مشكلة الفساد حجماً كبيراً من اهتمامهم يعادل اهتمامهم بأزمة الكهرباء والحر الشديد وتصريحات النواب التي تكشف عن جهل سياسي واضح. ولذلك اخترع العراقيون على صفحات التواصل الاجتماعي مصطلح «سياسي الصدفة» على النواب والوزراء. ويأخذ دعم الحشد الشعبي حيزاً كبيراً من اهتمام الشيعة وينشرون كثيراً من الفيديوات عن عملياته العسكرية. كما يكشف فايسبوك حجم الضحايا من الشباب الملتحقين بالحشد وذلك من خلال الرثاءات والصور وافتخار العشائر بشهدائها.
وفي ظل هيمنة الطقوس الدينية والعشائرية وممارستها قوانينها الخاصة، لا تبدو الطبقة المدنية الوسطى قادرة على النهوض، وتكتفي بالمطالبة بالدولة المدنية دون وجود أساس اجتماعي واقتصادي لها في ظل اقتصاد يتدهور ويفقد هويته. فلا هو اقتصاد السوق ولا هو اقتصاد القطاع المختلط ولا هو اقتصاد الدولة الرأسمالية. وبحجة الاحتفاظ بسعر صرف الدينار تجاه الدولار، تربح المافيات المالية التابعة للأحزاب السياسية ملايين الدولارات يومياً، رغم أن فقرة في الموازنة العامة لسنة 2015 حددت مبلغ 75 مليون دولار يومياً لشراء الدينار من جانب البنك المركزي بعد أن كان 200 مليون دولار يومياً. وقبل أسابيع خاضت المصارف التي تملكها الأحزاب الرئيسة معركة فارق سعر الصرف وجنت ملايين الدولارات برفع سعر الدولار مرة وبرفع سعر الدينار مرة أخرى. وقدرت إحدى منظمات الشفافية الدولية وجود 220 مليار دولار خارج العراق هي ملكية عدد من السياسيين العراقيين.
أما شركات الاتصال، خاصة الخليوي، فهي ملك الأحزاب الكردية في إقليم كردستان والأحزاب العراقية في الوسط والجنوب. وهي تهرب بلايين الدولارات سنوياً إلى الخارج حتى في ظل الإفلاس الحالي وهبوط أسعار النفط وعجز الحكومة عن دفع رواتب موظفيها بمن فيهم المتقاعدون.
أكبر صفقة في التاريخ
يبدو العراق اليوم أكبر صفقة في التاريخ، فمن 2003 إلى 2014، أهدرت 800 بليون دولار هي مجموع الموازنات المعلنة والمقررة برلمانياً من دون أن يظهر أي أثر لها في البنية التحتية أو في الإعمار أو في تقليص عدد الفقراء الذي أعلنت وزارة العمل قبل أيام أنه وصل إلى 7 ملايين شخص. وكشف سقوط الموصل وجود مئات الآلاف من الرتب العسكرية الوهمية ومخصصاتها اليومية وبيع المناصب العليا في الجيش. ليس للنظام السياسي في العراق اليوم سوى قاعدة واحدة هي الطائفة والعشيرة، سواء القسم الشيعي منه أو القسم السني. وكل رئيس وزراء جديد سيظل محكوماً بهذه المعادلة ونتائجها الكارثية. فطبيعة النظام طبيعة منقسمة على نفسها. والجميع ينظر إلى المحاصصة كوسيلة للحصول على المغانم وفرصة لجمع الأموال وتأسيس الفضائيات التي تخدم تسويق الفاسدين سياسياً خارج ضوابط الهيئة المستقلة للإعلام الخاضعة بدورها للمحاصصة الحزبية.
في ظل هذه الأوضاع، تحول العراق إلى عبء على السياسة الدولية والإقليمية. ولكنه أولاً عبء على العراقيين الذين كرهوا بلدهم للمرة الأولى وتمنوا الهجرة منه. وساعد تنظيم «داعش» باحتلاله الموصل وتهديده بغداد، على انتشار التنظيمات المسلحة التي استمدت شرعيتها من فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها المرجع الديني علي السيستاني لتحل، تقريباً، محل المنظومة العسكرية التي انهارت. وقد طالب الأمين العام ل «عصائب أهل الحق» قبل أسابيع بتغيير النظام من برلماني إلى رئاسي. وهذه العصائب لعبت دوراً كبيراً ضمن تشكيلات الحشد الشعبي في استعادة تكريت ومناطق سامراء وجبال حمرين وبعض مناطق ديالى من «داعش»، وبالتالي فإن فاتورة تسديد الحساب سياسياً لم يحن وقتها بعد.
ورطة العبادي
ويبدو العبادي، وهو يحاول زيادة شعبيته شكلياً، مقلداً بعض زيارات الزعيم عبد الكريم قاسم (1958-1963)، في ورطة حقيقية لا يستطيع فيها إرضاء جميع الأطراف ولا الميل إلى بعضها على حساب الآخر. كما أنه عاجز عن تحقيق منجزات وإصلاحات في البنى الاجتماعية والخدمية لان كل الاتفاقات التي تأتي برئيس وزراء هي اتفاقات «لتمشية الحال»، سرعان ما يجري تجاوزها في خضم أحداث خاضعة لمؤثرات إقليمية ودولية فاعلة. كما أن مفهوم الإصلاح الثقافي غائب تماماً، لأنه مجهول في عقلية السياسيين العراقيين الذين تربوا في مدارس عبادة الفرد وإلغاء الآخر وإقصائه وعدم الإيمان بالتعددية والعيش في نظام ديموقراطي.
في ظل هذا الوضع، لا يزال القانون معطلاً بسبب النفوذ السياسي والاختراقات الأمنية في بعض قطاعات الجيش والشرطة، اذ لا يطاول القانون أي قضية فساد أو تجاوز سياسي للقانون. ويجري خطف بعض المواطنين من أجل الكسب المادي وطلب الرشى والفديات التي تتجاوز مئات الألوف من الدولارات. وتشيع المخاوف بين المواطنين، إذ إن تهمة «4 إرهاب» يمكن توجيهها واستخدامها دون دليل قانوني، ومن خلال المخبر السري.
قد تكون هناك مجازفة بقبول فكرة أن الشيعة يقودون الحكم. فالاحتجاجات الأساسية تأتي من الشيعة أنفسهم في البصرة والناصرية والديوانية والنجف معقل الطائفة الشيعية فقهياً وسياسياً. فهناك خلافات حادة بين المرجعية الشيعية و القيادات السياسية للأحزاب الدينية الشيعية، إذ عاد السيستاني إلى رفض مقابلة أي من قادة الأحزاب الشيعية فيما يطالب وكلاؤه الروحانيون في النجف وكربلاء في خطب يوم الجمعة بإنهاء الفساد وإجراء الإصلاحات وحل الأزمات الخدمية التي تواجه المواطنين وأولها الكهرباء.
انتشرت المحاصصة إلى داخل الشيعة أنفسهم وفق النفوذ السياسي، ففي حين يسيطر المجلس الأعلى الإسلامي على محافظة البصرة يسيطر حزب الدعوة على محافظة الناصرية. في حين يكاد التيار الصدري مسيطراً على محافظة بغداد من خلال نفوذه في مدينة الثورة (الصدر حاليا) التي يوازي عدد سكانها عدد سكان بغداد بضواحيها الشيعية أيضاً. وهذا يعني أن المشاريع الحكومية توزع استناداً إلى هذا الاستئثار السكاني الانتخابي. ولذلك يشيع مفهوم الاستحقاق الانتخابي للمطالبة بالاستيلاء على المناصب حتى الدبلوماسية منها.
الفساد شرٌّ مقيم
كان الفساد مبكراً. فقد تعاقد الجيش الأميركي مع عدد ممن عمل مع عدي صدام وأجهزة الأمن والمخابرات وبرنامج النفط مقابل الغذاء، ومواد البطاقة التموينية التي صدرت بموجب هذا البرنامج وتطور الفساد بانفتاح السوق والاستيراد غير المنظم وغير الخاضع للمواصفات ودخول القوى السياسية في هذه السوق.
في هذه الحال لا يبدو العراق بلداً مستقلاً وذا سيادة. فاللاعبون الكثيرون فيه مرتبطون بأهداف إقليمية ودولية. لقد أعطى رئيس إقليم كردستان موافقته لتركيا لكي تقوم باختراق الأجواء العراقية وقصف مناطق عراقية في دهوك وجبل قنديل في الأراضي العراقية دون إعلام الحكومة الاتحادية أو طلب موافقتها. وبعد تصاعد الاحتجاجات الكردية ضد مسعود بارزاني بسبب هذه الموافقة وسقوط عشرات المدنيين وحرق مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، عاد وطلب من بغداد رد العدوان التركي على حد قوله. إن بلدا بهذه المواصفات لا يعد مستقلاً وسيادياً.
أما تجربة الحكومات المحلية أو مجالس المحافظات، فهي كارثية، إذ أصبحت كل محافظة عراقاً مستقلاً تسيطر عليه مجموعة حزبية تستولي على الأموال المخصصة من المركز دون محاسبة أو تدقيق، بحيث تشكو النجف، على سبيل المثال، من تراكم النفايات بعد أن قبضت الشركة المتعاقدة ملايين الدولارات واختفت.
أما المشكلة الأخرى التي يعاني منها العراق ولا يبدو أنها تشكل هاجساً للحكومة أو البرلمان، فهي مشكلة الجفاف. والمحزن أن نهراً مثل الفرات يجف وتتقلص مساحاته المائية ويتصحر مجراه ويكاد يختفي. ولا يقل مصير نهر دجلة مرارة عن مصير نهر الفرات. وقد تعرضت زراعة الرز، المعروفة ب «الشلب»، إلى كارثة في مناطق زراعته في الشامية وغماس والناصرية. وتحولت الأراضي الزراعية إلى أراض متصحرة أو إلى مناطق سكنية. فلم يعد العراق بلداً زراعياً، إذ تناقص عدد أشجار النخيل من 37 مليون نخلة إلى 3 ملايين. كما أن العراق يستورد المواد الغذائية والخضار والفاكهة ومياه الشرب من تركيا وسورية وإيران وبعض دول الخليج.
نظام غير تمثيلي
يمكن القول إن النظام في العراق لم يعد يمثل أحداً من الشعب. وتبدو العملية السياسية فوقية وقائمة على علاقة تناحرية مع العراقيين. فالطبقة السياسية تعيش في كواليسها وفسادها. والتهم الموجهة إليها تطعن حتى في مشروعيتها الانتخابية، ما يدلل على حجم الهوة الفاصلة بين الطرفين.
وقد شهدت بغداد ومدن أخرى، تظاهرات احتجاجية في الأيام الأخيرة من تموز (يوليو) الماضي احتجاجاً على تردي الخدمات، وخاصة الكهرباء، مع الارتفاع الحاد في درجات الحرارة. وقد عوملت هذه التظاهرات في بغداد والنجف بإبراز العطف الحكومي عليها في رسالة واضحة إلى المجلس الأعلى الإسلامي الذي ينتمي إليه محافظ البصرة وعدد كبير من أعضاء مجلس المحافظة بعد قمع التظاهرات في البصرة ومقتل أحد الشباب. بحيث يمكن القول إن تظاهرات بغداد أصبحت سلاحاً بيد رئيس الوزراء ضد بعض وزراء المحاصصة. وقد دعم ممثلو السيستاني هذه التظاهرات، فتناغم العبادي مع رغبة المرجعية فعادت عليه بفائدتين.
ولا يمكن إغفال الدور الأميركي في دفع هذه التظاهرات إلى النتيجة التي آلت إليها. فالولايات المتحدة بحاجة إلى تنفيس الضغط العالي الذي كان من الممكن أن ينفجر بقوة، وإلى تغطية الفساد الهائل لحلفائها في العراق.
وليس من المتوقع أن يبدأ أي إصلاح في وقت قريب. بل إن هذا الإصلاح شبه مستحيل على يد من يعمل على إبقاء العملية السياسية مورداً للفساد المالي والسطوة والنفوذ. ولا تكمن المشكلة في تردي الخدمات، وإنما في طبيعة الفكر والسلوك السياسي. فليس هناك أي مسؤولية، ومن أي نوع، تلزم النظام السياسي القائم أن يكون نظاماً ديموقراطياً ومستقراً يلبي حقوق المواطنين وينظم حياتهم عبر تشريعات ضامنة. فالسلطة موزعة على تنظيمات وقوى لا على مؤسسات. وكان انهيار الجيش في الموصل وتكريت والأنبار الدليل الأبرز على ذلك. فلم يكن الجيش مؤسسة وطنية مهنية، وإنما قوات منقسمة على عدد القوى والتنظيمات الطائفية وفق نفوذ كل تنظيم.
ولا يمكن لحيدر العبادي تطوير أدائه كأعلى مسؤول تنفيذي دون أن يتخلى هو الآخر عن أفكار هذه المدرسة وممارساتها. فالحزب الحاكم في النظام الديموقراطي لا يطبق أيديولوجيته وإنما يحقق برنامجه، سواء كان محافظاً أو اشتراكياً أو عمالياً أو جمهورياً أو ديموقراطياً أو ديموقراطياً مسيحياً. أما في العراق، فالتصادم قائم بين أيديولوجيا حزب الدعوة الإسلامية الحاكم ومطالب الدولة المدنية والمجتمع المدني والتعددية والتحديث. فما هو مهم اليوم لدى كثير من تنظيمات الحكم هو منع الغناء والكحول والحفلات، إذ حلت الفضيلة الدينية بمعناها السطحي محل الفضيلة السياسية التي انعدمت تماماً.
* كاتب عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.