سياسيّ بغداديّ، نُودي به رئيساً لحكومةِ بلادٍ شقّها الصراع، فأغدق في الوعود، حتى بات لدى كثيرين «المخلّص» صاحب العصا السحرية، التي سترفع تلك «اللعنة» عن بلاد ما بين النهرين، فتزهر «حدائقها المعلّقة»، أو «العالقة» بين «إيقاعات» الفرقاء السياسيين، لكنه علِق بين «الخصوم» و«الحلفاء»، لا يدرك أيهم أنجى سبيلاً. موصوف ب «الإصلاحي»، وقيل في «بداهته» الكثير، تسلّم «التكليف» وهو يدرك أيّ قعر بلغت بلاده، وأيّ حال باتت عليه، فيما استمهلته مُقل العراقيين، التي لم تفتأ بكاء، ورجت «فارساً مغواراً» ل «مهمّة مقدّسة»، وقالت: هو لها. من هو العبادي؟ حيدر العبادي، سياسي عراقي، ولد في بغداد عام 1952 لأسرة ميسورة الحال، مسقط رأسها «النجف»، المدينة ذات المكانة الدينية لدى «الشيعة العرب»، ووالده هو طبيب الأطفال جواد بن كاظم بن الحاج عبود بن عباس العبادي، المتصل نسبه بقبيلة «عبادة» العربية الشهيرة. أسرة العبادي تنقلت في العراق بين أكثر من مدينة، حتى استقرت في العاصمة بغداد، وتحديداً في منطقة الكرادة الشرقية، التي تلقى فيها تعليمه الأساسي، لينتقل من مدرسة الإعدادية المركزية عام 1970 إلى «الكلية الصناعية»، التي صارت لاحقاً «الجامعة التكنولوجية»، ويحصل منها على درجة البكالوريوس في «الهندسة الكهربائية» عام 1975. غادر المهندس العراق إلى بريطانيا لإكمال تعليمه، والتحق ب «جامعة مانشستر» للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراة في «الهندسة الالكترونية والكهربائية» عام 1980، ثم انتقل إلى العاصمة لندن ومكث فيها طوال سنوات ما قبل الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. والد العبادي، الذي حصل على الاختصاص في طب الأطفال من فرنسا، عمل في المؤسسات الحكومية العراقية حتى عام 1979، حيث أحيل إلى التقاعد، فيما تتضارب المعلومات بشأن تقاعده، وما إذا كان جزءاً من الحملات الأمنية التي قادها النظام العراقي آنذاك أم لا، لكن ما يورده الابن في سيرته الذاتية أنه– أي الأب– أُحيل إلى التقاعد ضمن قائمة من 42 طبيباً بقرار من مجلس قيادة الثورة العراقية لعدم ولائهم لنظام البعث؛ أما إخوته فيقول إن اثنين منهم أُعدما بتهمة انتسابهما ل «حزب الدعوة الشيعي»، بينما سُجِن الثالث ل 10 سنوات، غير أن هذه المعلومات لم توردها مصادر أخرى. حياته السياسية الحياة السياسية لحيدر العبادي تنقسم إلى شقين، الأول: انتماؤه الحزبي، الذي بدأ- على ما يذكر في سيرته الذاتية– مبكراً في صفوف «حزب الدعوة»، وتحديداً عام 1967، إذ كان قد أتم من عمره 15 عاماً فقط، إلا أن نشاطه الحزبي العلني بدأ بعد مغادرته العراق، ليتدرج في المراتب التنظيمية من مسؤول لفرع الحزب في بريطانيا (عام 1977)، ثم عضوا في قيادته التنفيذية (عام 1979)، فمسؤولاً لمكتبه في الشرق الأوسط ببيروت (عام 1980)، وصولاً إلى تسلمه مسؤولية المكتب السياسي للحزب والناطق الرسمي باسمه (حالياً). الشق الثاني لحياة العبادي السياسية بدأ بعد الاحتلال الأمريكي (عام 2003)، وهو العام الذي شهد عودة أعداد كبيرة من معارضي الخارج العراقيين، ليعيّن وزيرا للاتصالات في الحكومة التي شكلها الأمريكي بول بريمر، رئيس «الإدارة المدنية لإعادة إعمار العراق»، ومن ثمّ مستشاراً لرئيس الوزراء عام 2005، لينتقل تالياً إلى السلطة التشريعية عبر فوزه بانتخابات مجلس النواب العراقي في دوراته الثلاث 2006 و2010 و2014، وترأس خلال هذه السنوات لجان الاقتصاد والاستثمار وإعادة الإعمار، ثم اللجنة المالية، وفي يوليو 2014 انتخب نائباً لرئيس مجلس النواب قبل أن يُكلّف بتشكيل الحكومة العراقية، التي يترأسها حتى الآن. خليفة الصحاف المفارقة في تولي د. العبادي وزارة الاتصالات، في أول سلطة عراقية تحت الاحتلال الأمريكي، أنه أعقب وزير الاتصالات العراقي الأكثر شهرة على الإطلاق، وهو محمد سعيد الصحاف، الذي عُرف على نطاق واسع ببياناته الصحفية، التي أدار من خلالها الحرب الإعلامية خلال الغزو الأمريكي، وكذلك عُرِف بوصفه جنود الاحتلال الأمريكي ب «العلوج»، وهو الوصف الذي عجز الإعلام الغربي عن إيجاد مرادف له باللغة الانجليزية. قدّم العبادي نماذج متعددة، خلال سنوات 2003-2014، للسياسي العراقي، أحالته أمام الرأي العام ك «تكنوقراطي»، خاصة أن سيرته الذاتية تتضمن عدة انجازات عملية في مجال اختصاصه الهندسي، فيما لم يشكل نشاطه الحزبي في «الدعوة»، الذي يتزعمه رجل إيران في العراق د. نوري المالكي، تهديداً لصورة «التكنوقراطي». حين تولى العبادي (عام 2005) منصب مستشار لرئيس الحكومة خضع لاختبار «سياسي- أمني»، إذ عُيّن مُنسقاً عاماً لمدينة تلعفر، لتخليصها من سيطرة «تنظيم القاعدة»، الذي تمدد فيها محمياً بحواضن شعبية، وهي المهمة التي أنجزها بكفاءة، واعتُبِرت آنذاك من أنجح الإنجازات الحكومية. رجل الغرب ارتبط الظهور السياسي الرسمي للعبادي برافعتين اثنتين، الأولى: الدعم الغربي (الأمريكي والبريطاني)، وهو ما يجمع عليه مختلف السياسيين العراقيين، الذين يعتبرونه «رجل الغرب» في العراق؛ أما الرافعة الثانية فهي: تعقيدات العملية السياسية في عراق ما بعد صدام حسين، وما تضمنته من صراعات بين الكتل والقوى السياسية الناشئة حديثاً، التي استند عدد كبير منها إلى «براغماتية» و«انتهازية» مُفرِطة، الأمر الذي وفر لها طريقاً لتصدر المشهد. نجاح العبادي في إدارة «ملف تلعفر» (2005)، وانشقاق إبراهيم الجعفري عن «حزب الدعوة» عقب تنحيته عن رئاسة الوزراء بإرادة أمريكية (2006)، جعل من «الدكتور المهندس» مرشحاً قوياً لرئاسة الحكومة، لكنه لم يبلغ المنصب نتيجة للتدخل الإيراني، الذي دعم نوري المالكي بقوة، ليعود العبادي مجدداً إلى واجهة المرشحين عام 2010، لكنه لم يُفلح لممانعة إيران أيضاً. رئاسة الوزراء وصول العبادي إلى رئاسة الوزراء عام 2014 جاء نتيجة لإخفاق سلفِه المالكي، الذي شهدت دورتيه في الرئاسة فقدان الحكومة المركزية للسيطرة على نطاقات واسعة من العراق، سواء لجهة نمو النزعة الانفصالية في المناطق الخاضعة لسلطة إقليم كردستان، بما يشمل أزمة كركوك وضمها، أو لجهة سيطرة «تنظيم داعش» على مساحات واسعة من غرب العراق، وإعلان «دولة الخلافة»، ومن ثم فرار القوات العراقية الحكومية من مواجهة «داعش» في الموصل، وهو ما أدى إلى انشقاقات في «التحالف الوطني»، الذي يشكل الأغلبية البرلمانية الضامنة للحكومة، أعقبتها حالة من الرفض لمنح ولاية ثالثة لرئيس الوزراء المنتهية ولايته (المالكي). تحديات تكليف العبادي برئاسة الحكومة ترافق مع تحديات وجودية خطيرة، يمكن إجمالها في النقاط التالية: أولاً: التغول والنفوذ الإيراني الواسع في مختلف أوصال الدولة، وخضوع المؤسسات السيادية العراقية لرغبات وإرادات سياسيي وملالي طهران، التي اتخذت طابعاً استحواذياً ضاق به العراقيون بمختلف تقسيماتهم الدينية والمذهبية والعرقية. ثانياً: سيطرة «تنظيم داعش» على أجزاء واسعة من غرب العراق، وإقامته «دولة الخلافة» المزعومة، ما عكس هشاشة القوات الحكومية المركزية وعجزها عن التصدي للتهديد الإرهابي. ثالثاً: استشراء الفساد الرسمي/ المليشيوي، واستحواذه على حصة الأسد من إجمالي الدخل القومي للدولة، وتجذّر الفاسدين ضمن «منظومات مصلحية» تحمي فسادهم، ومشارفة العراق على الإفلاس والعجز عن تسديد التزاماته. رابعاً: انهيار القطاع النفطي وفقدان جزء كبير من مساهماته في الاقتصاد الوطني، سواء لجهة استيلاء إيران والمليشيات الموالية لها على جزء كبير من الإنتاج النفطي، أو لجهة امتناع الإقليم الكردي عن تزويد الحكومة المركزية بالنفط، وحرمان ميزانية الدولة من عوائده، إلى جانب سيطرة «تنظيم داعش» على جزء من الأنابيب الناقلة للنفط. خامساً: نمو نسب البطالة والفقر في الأوساط الشعبية، وتراجع المستويات المعيشية للعراقيين عموماً في ظل التضخم المطرد الناجم عن الفساد والمشكلة الأمنية وغيرها. سادساً: عجز الحكومات العراقية منذ عام 2003 عن القيام بأي أدوار تنموية مُعتَبَرة، وغرقها في مستنقع الطائفية، وتبنيها لنهج إقصائي للعراقيين السُنّة. سابعاً: العُزلة الإقليمية والدولية للعراق، التي جاءت كنتيجة عن ارتماء النخبة الحاكمة في الحضن الإيراني (مخيّرين ومجبَرين)، وانفصالها عن امتدادها القومي العروبي. الانتفاضة الإصلاحية أمام هذا الواقع، الذي ترافق مع «احتجاجات شعبية» شبه دائمة، رافضة للواقع ومطالبة بالتغيير الجذري، قادتها قوى عراقية متعددة الخلفيات، وفي ظل معادلة سياسية تحكمها الاعتبارات الطائفية دون الوطنية، شكّل العبادي حكومته (في 11 أغسطس 2014) محفوفاً بآمال قطاع عريض من العراقيين، ليجد نفسه بعد عام ونصف العام عاجزاً عن تحقيق منجز حقيقي يقدّمه إلى الرأي العام المحلي، وبلوغ العملية السياسية مأزقاً خطيراً، ينذر بانهيارها، خاصة بعد محاصرة المحتجين، بزعامة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، ل «المنطقة الخضراء». «احتجاجات المنطقة الخضراء»، أو «الانتفاضة الإصلاحية»، تبنت مجموعة من الأهداف والمطالب، بعيداً عن إمكانية تحقيقها في ظل المعادلة العراقية الحالية، رغم وجاهتها الوطنية، خاصة أنها رافضة للحلول الترقيعية، التي رافقت حكومتي المالكي الأولى والثانية، والتي يمكن إجمالها في النقاط التالية: أولاً: تشكيل حكومة تكنوقراط عابرة للصراع الطائفي والعرقي والديني، وبعيداً عن محاباة القوى السياسية المشاركة في الحكومة أو الضامنة لها برلمانياً. ثانياً: اجتثاث الفساد وملاحقة الفاسدين، بما يشمل «البنية القانونية»، التي توفر «حمايات تشريعية» لإمبراطوريات الفساد. ثالثاً: إصلاح «السلطة القضائية»، وإعادة الاعتبار لاستقلاليتها، بما يحُول دون تغوّل السلطة التنفيذية والتشريعية. رابعاً: إعادة بناء المؤسسة العسكرية والأمنية، وتطهيرها من الأجندات «غير الوطنية»، وإعادتها إلى وظيفتها كذراع وطنية قادر على تنفيذ القانون وحماية الدولة العراقية. خامساً: إصلاح «العملية السياسية» عبر بنية دستورية تتجاوز «جوهر دستور برايمر»، الذي ظلت تعبيراته حاضرة في الدستور العراقي الأخير عبر تجليات «المحاصصة» وعُقدة «المظلومية التاريخية». «الانتفاضة الإصلاحية»، التي باتت تحظى بدعم شعبي واسع، وضعت العبادي أمام خيارات صعبة، لا يستطيع مواجهتها، إذ تعني استجابته لمطالبات المحتجين فقدانه للغطاء البرلماني، الذي يوفره له «ائتلاف دولة القانون»، بقيادة الحليف والخصم في آن واحد نوري المالكي، فيما ستدفعه عدم الاستجابة إلى تنفيذ المحتجين لتهديداتهم ب «القلع» و«الشلع»، وهما مفردتان من اللهجة العراقية استخدمهما الصدر في خطابه الأخير، مهدداً بهما من يعرقل جهود التغيير. تصفية الحسابات جوهرياً، مشكلة العبادي معقدة إلى حد تغيب فيه الفواصل بين خصومه وحلفائه، ما يحيله وحكومته- أولاً- إلى ساحة لتصفية الحسابات بين المالكي والصدر، وثانياً: فريسة سهلة للأكراد، الذين يتمسكون بقواعد اللعبة السياسية الحالية بمقدار ما تحققه لهم من تعزيز للنزعة الانفصالية، وثالثاً: عاجز فعلياً عن النهوض بالأداء الحكومي في ظل البنية القانونية والدستورية المقيّدة، رابعاً: نمو التهديد الإرهابي وما يشكله المأزق السياسي من إغراء لاستهداف المركز. لا شك أن العبادي يواجه انسداداً كاملاً، ويفتقد البدائل التي تمكّنه من عبور عنق المأزق السياسي الحالي، الأمر الذي يضعه أمام «مهمة شبه مستحيلة»، خاصة أن كل خطواته بحاجة إلى «موافقات» من «جهات متعددة» و«متضاربة مصلحياً»، من بينها طهران والمرجعيات الشيعية (الإيرانيةوالعراقية) والقوى السياسية، وكذلك القوى الدولية. حظوظ العبادي في الإفلات من المأزق الحالي قليلة، حتى إن استطاع أن يتجاوز عُقدة «حكومة التكنوقراط»، فالمستقبل رهن بإعادة النظر في قواعد «العملية السياسية» برمتها، وضمن توافق وطني واسع، بما ينقلها من خانة «العملية الطائفية» إلى بوابة «دولة المواطنة والقانون»، التي تشكل جوهر مطالبات المحتجين العراقيين، الذين توحدهم المخاوف من المقبل. تظاهرات في بغداد تطالب العبادي بإصلاح سياسي مواجهة مستمرة بين الجيش العراقي وتنظيم داعش