انقطع القاص محمد حيّاوي عن الكتابة بعد فراره من العراق في العام 1992 إلى الأردن، ومنها إلى هولندا بمساعدة الأممالمتحدة في العام 1996. وبعد أن نال درجة الماجستير في العام 2001، عمل مصمم غرافيك مع جريدة «تليغراف» الهولندية حتى العام 2012. كتب مجموعتين قصصيتين للأطفال باللغة الهولندية... «لكنّني عندما حاولتُ الكتابة باللغة العربية وجدتُ نفسي غير قادر على ذلك، لأن مخيلتي أصابها العطب، إذ اكتشفتُ أن المخيلة ليست مجرد وجود أثيري بل هي وجود فيزيائي يلزمه حاضنة كي تعمل، وهذه الحاضنة هي الوطن الذي افتقدته على مدار عشرين عاماً». ورفض حيَّاوي إعادة نشر روايتيه «ثغور الماء» 1986، و «طواف متصل» 1989، ومجموعته القصصية، «غرفة مُضاءة لفاطمة» 1988 ما لم يصدر له عمل جديد باللغة العربية. التقينا محمد حيّاوي في هذا الحوار لمناسبة صدور روايته «خان الشّابندر» عن دار «الآداب» البيروتية: حدثنا عن ملابسات كتابتك رواية «خان الشَّابندر»؟ - وصلتُ إلى بغداد في العام 2012 بعد انقطاع دام لأكثر من عشرين عاماً، لتنفيذ عدد من الدورات التطويرية على صعيد التصميم والصحافة الجديدة في العراق، وكنت عائداً للتو من المحافظات الوسطى وما زلت تحت تأثير الكرم والاحتفاء الذي لاقيته هناك، وتشكّلت في مخيلتي شظايا لحكايات مقبلة بعد أن تختمر في الذاكرة. لكن الأمر الذي رسّخ المزيد من تلك الصور هو اليوميات التي عشتها لاحقاً، والشقّة الصغيرة التي أقمتُ فيها في الكرّادة ومارست فيها طقوسي في التصميم والكتابة. ومنها تحديداً انطلقت فكرة الرواية وتجسّدت صورها وتفصيلاتها يوماً بعد يوم. يومياً، ارتدي حذاءً رياضياً وأمضي من شارع أبي نواس حتى شارع المتنبي عبر شارع الرشيد مشياً على الأقدام لأتأمل الصور المُدهشة، صور بغداد وهي تنفض عن وجهها الصبوح آثار النوم وهباب الانفجارات، وثمَّة بائعة كعك صغيرة هنا ومصلّح مدفآت هناك، وصولاً الى الميدان حيث الكائنات الغامضة والغريبة والبيوت المُهدَّمة والأبواب القديمة المُغلقة على أسرارها وعمال النجارة في الأزقّة شبه المهجورة، وأصوات الحياة اليومية المكتومة خلف الجدران المُحدّبة وبناية خان الشّابندر التي مادت سقوفها تحت ضربات الزمان ونما العشب الأخضر فوقها مغتسلاً بضوء الشمس المُهادن. الغريب في الأمر هو أنني كنتُ إذا واجهتُ صعوبة في الاسترسال أغلق الكومبيوتر وأذهب إلى محلة «الحيدرخانة» القديمة لأعود معبأ بالصور المُدهشة، وهناك تعرّفت إلى «مجر». كان رجلاً هرماً يبيع العتيق ويرتدي عُصابة حمراء مُنقّطة، بلحية مُسترسلة وشارب كث، فالتقطت صورته في مخيَّلتي وخزّنتها خلسة، قبل أن اتجه إلى أحد البيوت الآيلة للسقوط حيث يسكن عدد من عمال النجارة وباعة الخردة، فاطلعت على عوالمهم الغريبة وطريقة عيشهم، وعندما صعدت إلى السطح لاحت لي خرائب خان الشّابندر المجاورة، وأجوافها المملوءة بالحطام والقناني والعلب الفارغة. كنت ألتقط الصور بكاميرا هاتفي النقّال قبل أن أخزّنها بذاكرتي التي استفزتها تلك العوالم المنسية. وفي الليل، أتطلّع إلى الصور التي التقطتُها في النهار، تعتمل التفصيلات في مخيلتي وأسقط شخصياتي المستلة من الذاكرة على تلك العوالم والأمكنة المُعابة، لأعيد بناء يوتوبيا أخرى مختلفة أو مُتخيلة للمدينة وقاعها وحيواتها السريّة. هل يمكن القول إنك سعيت بعد عشرين عاماً إلى إعادة اكتشاف الذات العراقية بواسطة روايتك «خان الشّابندر»؟ - الحقيقة، لم أجد ذاتاً عراقية، بل وجدت علاقات اجتماعية مضطربة تطغي على الكثير منها المصالح الشخصية. وجدت الناس موتى وهم أحياء، ليس لديهم إحساس بالألم. فقد اعتاد العراقيون على دويّ الانفجارات المستمرة وتعايشوا معها، وبعد كل انفجار يهرعون لجمع أشلاء القتلى ثم يغسلون بقايا الدم ويعيدون عرض بضاعتهم على الأرصفة. لقد سببت لي تلك الظاهرة صدمة عميقة وتخيَّلتُ للحظة أن جميع العراقيين في بغداد قد ماتوا منذ زمن بعيد، لكنَّهم أحياء بطريقة أو بأخرى. هل ثمَّة مشهد روائي جديد تبلور في العراق بعد التغيير؟ - نعم، هناك انفجار روائي عراقي حدث بعد العام 2003، إذ تُشير الإحصاءات إلى صدور أكثر من 400 رواية، لكن قضية تمحيصها وفرزها أو فحصها نقدياً سيتطلب زمناً، ولو ظفرنا بعُشر هذا العدد من الروايات الجيّدة لكان الأمر إنجازاً للرواية العراقية في المستقبل، إذ لم يبلغ التأسيس الروائي العراقي كله منذ مطلع القرن الماضي حتى العام 2003 مثل هذا العدد الكبير. لماذا لجأت إلى بيروت ودار «الآداب» لنشر روايتك؟ - بعد سقوط النظام السياسي السابق طغت في العراق ظاهرة الاستسهال في النشر، الذي أصبح متاحاً لكل من يملك المال، وعندما كتبت «خان الشّابندر» بعد انقطاع عن الكتابة دام لأكثر من عشرين عاماً، أبدى معظم الناشرين العراقيين، الذين تربطني بهم صداقة قوية استعدادهم لنشرها، لكنني خشيتُ ضياعها وسط الكم الهائل من الروايات التي صدرت. في الواقع كنتُ في حاجة إلى فحص نصي جيداً لأرى هل ما زلت صالحاً للكتابة أم لا، وبالفعل صدرت الرواية عشية معرض بيروت الدولي للكتاب ولاقت استحساناً جيداً شعرت بصداه في العراق ومصر، ولمست اهتماماً جيداً بها في معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي دعيت للتحدث عن تجربتي على هامشه، كما استضافني «مركز الإسكندرية للإبداع» أخيراً لمناقشة الرواية. إن مثل هذه الأصداء الواسعة والأثر الطيّب الذي تركته الرواية في أوساط مثقفين كبار لهم حضورهم الملحوظ على الساحة الثقافية العربية في فترة زمنية محدودة، لهو أمر شديد الوطأة على النفس في الحقيقة. أقصد لجهة المسؤولية الثقيلة التي شعرت بها نتيجة لثقة هؤلاء المبدعين الكبار بالرواية، لا سيما في مصر، حاضنة الثقافة العربية ومنبرها الإبداعي والنقدي والمعرفي العريق. «خان الشابندر»، تكاد أن تكون مجموعة روايات في رواية واحدة... هل هو نوع من التكثيف؟ - نعم، فالحدث فيها مكثّف جداً، ولغة السرد ثرّية وأقرب إلى الشعر، وسبب ذلك حرصي على الإمساك بالحدث الرئيس الذي يُمثّل الخط الدرامي العام للرواية من دون الوقوع في تفريعات تضر عملية تماسك البناء أو تضعف منه، أيضاً تسارع الأحداث والمشهدية العالية التي اعتمدتها جعل الرواية أقرب إلى السينما. أما لجهة كثافة اللغة، فأنا من أشد الساعين إلى متانة النص الروائي لغوياً لأنني أدرك أن الرواية من دون لغة متينة ستتحول إلى مجرد حدوتة. ربما يعود اهتمامي باللغة وشعريتها لكوني ولدت في مدينة الناصرية جنوبالعراق وهي مدينة استثنائية لجهة كثرة الأدباء الذين أنجبتهم ولوجود مناخ ثقافي وأدبي متجذر فيها طالما أخضعنا، منذ طفولتنا الأدبية لمعاييره الصعبة والفاحصة وغير الرحيمة. لقد ساهمت نشأتي في هذا المحيط الأدبي الثري في توجيه قراءاتي نحو كتب التراث العربي، إلى جانب ترجمات الأدب العالمي التي كانت تزخر بها المدينة. إلى أي مدرسة روائية أو أسلوب تنتمي «خان الشّابندر»؟ - من وجهة نظري ثمَّة أمران نقديان مختلفان الأول الخيال، والثاني ما أطلق عليه الناقد العراقي البارز جاسم عاصي صفة المخيال، والفرق بينهما أن الخيال منفلت ولا يستند إلى أرضية واقعية، أما المخيال فهو الخيال الخلاق الذي يستند إلى أرضية واقعية، وبذلك أستطيع أن أقول إنني اشتق منحى روائياً خاصاً أطلق عليه الخيال الواقعي أو الواقعية الخيالية، وهو ما كان يشتغل عليه نجيب محفوظ، لكن للأسف لم ينتبه إليه معظم من كتب نقدياً عنه. ومن هنا أعتقد أن «خان الشّابندر» رواية خيال واقعي مطلق. كيف؟ - أحداث الرواية لا تنطوي إلا على نسبة لا تتجاوز ال5 في المئة من الواقع بينما ال95 في المئة المتبقية، فهي خيال مطلق. أما في ما يتعلق بالواقع، فتمثله زيارتي لأحد أحياء بغداد القديمة في منطقة «الحيدرخانة» عندما كانت تضج بالحركة والموسيقى والحكايات الحزينة والفتيات المُحبطات اللواتي قدِمن من خلفيات متنوّعة، حيث كانت تنتشر بيوت المتعة القديمة المهجورة، فبقيت تفصيلات هذه الزيارة عالقة بذهني لأكثر من ثلاثين عاماً، حتى تسربت في شكل عفوي إلى فصول الرواية، عندما قمتُ بإسقاط هذه الشخصيات على واقع جديد هو واقع بغداد 2003. لقد أقمت يوتوبيا خاصة في الخيال لتلك العوالم، أو ما يشبهها، لكن أكثر سحرية وأعمق حباً وأشد إيلاماً. تقول في الرواية: «سعيُنا لبلوغ الكمال الزائف أفقدنا متعة الحياة»، هل تستند «خان الشابندر» إلى عمق فلسفي معين؟ - في الواقع، أسعى في أعمالي كافة إلى ابتكار ما أسميه منصة فلسفية معينة لأسند العمل الفني إليها، قد لا أنجح دائماً بذلك، لكن «خان الشّابندر» حاولت مناقشة مفهوم الشرف الملتبس في مجتمعاتنا العربية، إلى جانب الكثير من الرؤى والمفاهيم الشاعرية، لا سيما تلك التي تستند إلى الديانة المندائية القديمة المتمثلة بالشخصّية المحورية في الرواية «مجر»، وتلك الانثيالات الوجدانية التي كان السارد يطرحها بواسطة شخصية البطل «علي موحان» ومعشوقته «هند» التي تتحول من فرط العشق إلى ملاك.