سجّلت أسوار الحرم الجامعي في تونس منذ اندلاع الثورة التونسية في كانون الاول (يناير) 2011، تواترا ملحوظا في أعمال العنف بين فصائل طلابية ذات أيديولوجيات متضادّة وتيارات سياسية مختلفة. وعاشت كليّة رقّادة بمحافظة القيروان منذ أيّام على وقع معركة "حامية الوطيس" بين طلاب إسلاميين وشيوعيين ما أدّى إلى جرح عدد من الطلبة وتهشيم معدّات الجامعة، فضلا عن ما خلقه ذلك من روع وفوضى في ساحة الحرم الجامعي. ولم تكن أحداث رقّادة إلاّ حلقة جديدة لسلسة من "التصادمات الطلابية" داخل أسوار الحرم الجامعي حيث عرفت كليّات المنار في تونسوسوسة وصفاقس وقفصة وقابس ومنوبة منذ الثورة تكرر المشهد "العنفي" نفسه خاصّة بين الاتحادات النقابية الممثلة للطلبة. وكانت كليّة الآداب في منوبة (ضاحية تونس العاصمة) قد عرفت أواخر عام 2011 اعتصاما مفتوحا قاده لأكثر من شهرين طلبة محسوبون على التيّار السلفي من أجل ما اعتبروه "حق الطالبات المنتقبات في الدراسة" بعد أن منعتهن إدارة الكلية من اجتياز الامتحانات دون الكشف عن وجوههن وقد نتج عن ذلك صدام بين طلبة سلفيين ويساريين. كما شهدت كلية "9 أبريل للعلوم الاجتماعية والانسانية" في تونس في تشرين الأوّل (أكتوبر) من العام الماضي أحداث عنف متبادل بين الطلبة استعملت فيها الأسلحة البيضاء والغاز المشلّ للحركة مّما تطلب تدخل قوات الأمن لتفريق العناصر المتخاصمة قبل أن تقرر الكلية تعليق الدروس لمدة 3 أيام. وسجلت جامعة سوسة العام الماضي مواجهات حادّة بين النقابات الطلابية الممثلة للإسلاميين والشيوعيين. ويمثل الطّلاب الإسلاميون والشيوعيون منذ نهاية السبعينات محوري الرحى في الصراعات الطلابية في الجامعة التونسية قبل أن يقوم الرئيس السابق زين العابدين بن علي بحظر نشاط الاتحاد العام التونسي للطلبة (المحسوب على الإسلاميين) عام 1991 ومنع العمل السياسي في الجامعة. ويرى بعض المتابعين للشأن الطلابي في الجامعة التونسية أن تنامي ظاهرة العنف، هي نتيجة "منطقية" للمناخ السياسي المتوتر في تونس بعد الثورة وخاصّة بعد فوز الإسلاميين في انتخابات عام 2011. واعتبر رئيس رابطة الجامعيين التونسيين محمد الصغير العاشوري أن "تاريخ الجامعة التونسية كلّه عنف، والأحداث التي عرفتها الجامعة في العاميين الماضيين ما هي إلاّ استمرار لأحداث العنف والصراعات الطلابية منذ الثمانينيات". وبيّن أن العنف لا يقتصر على الفصائل الطلابية فيما بينها "بل هناك عنف الشرطة على الطلبة وعنف الطلبة على الأساتذة، وهي من أخطر أنواع العنف التي باتت مستشرية في الحرم الجامعي"، بحسب قوله. وأرجع العاشوري أسباب العنف أساسا إلى "غياب الحوار، والنقص المعرفي لدى الطلبة وعدم المطالعة والعودة إلى المراجع الفكرية"، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن "غياب العمل الثقافي ونوادي السينما والمسرح وحلقات النقاش وراء تغلّب حجّة القوّة على قوّة الحجة". ويعترف أحد الطلبة المتخرجين حديثا من معهد الصحافة وعلوم الإخبار بأن "الخلافات الإيديولجية والمرجعيات الفكرية بين اليساريين والإسلاميين هي من يؤرّق الخلافات ويعمي الأبصار عن أي مشاريع أو برامج فعلية يمكن أن تخدم الطالب فيما يتعلّق بالبرامج التعليمية او الحصول على السكن الجامعي". كما رأى أن "هذه الخلافات تضاعفت بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة إذ اُستؤنف الصراع الطلابي في الثمانينيات المبني على مرجعيات فكرية متآكلة اليوم، بين اليساري الثوري البروليتاري، واليميني الإسلامي المحافظ". من جهته، فسّر الأمين العام للاتحاد العام لطلبة تونس وائل نوّار، أسباب العنف في الجامعة بانتشار ظاهرة "التكفير من الطلبة الذين ينتمون للجماعات التكفيرية والذين يعتمدون العنف سبيلا لفرض مشاريعهم بالقوّة ويحلّون أرواح ودماء كلّ من خالفهم"، وفق تعبيره. وحمّل نوّار "شباب حركة النهضة في الجامعة، والاتحاد العام التونسي للطلبة وأتباع أنصار الشريعة المحظور ورابطات حماية الثورة، مسؤولية العنف الأيديولوجي المتنامي في الحرم الجامعي"، مذكرا أن "الطلبة المنتمون لهذه الجماعات يريدون أسلمة الجامعة التونسية بالقوّة". ولاحظ أن من أسباب العنف هو التصادم بين مشروع الاتحاد العام لطلبة تونس "الديمقراطي، المنفتح من أجل ثقافة وطنية وجامعة شعبية " مع مشروع آخر للإسلاميين " يقوم على التكفير ويسعى إلى أسلمة الجامعة". ويرى مراقبون أن الصراع الأيديولجي القديم بين المرجعيتين الماركسية والإسلامية قد عاد إلى أسوار الجامعة التونسية مع استئناف الاتحاد العام التونسي للطلبة نشاطه بعد حوالي 23 عاما، وذلك بنفس العقليات التي كان يدار بها هذا الصراع الأيديولجي في أسوار الجامعة التونسية وسط الثمانينيات. وقال الأمين العام للاتحاد العام التونسي للطلبة راشد الكحلاني إن "ظاهرة العنف في الجامعة التونسية تعود بالأساس إلى حملات الإقصاء بالقوّة التي يشنّها علينا الاتحاد العام لطلبة تونس (المحسوب على اليساريين) منذ عودة منظمتنا الى الجامعة والشعبية الكبيرة التي اكتسبتها في صفوف الطلاب "، مشيراً إلى أن "التنظيمات الماركسية المختلفة المنتمية للاتحاد العام لطلبة تونس تنتهج آلية "العنف الثوري" من أجل إثبات وجودها وإقصاء منافسيها وتهمشيهم وهي آلية لم تعد مجدية اليوم". كما ذكر أن "الفصائل الطلابية المنضوية تحت الاتحاد العام لطلبة تونس ذات المرجعيات اليسارية المختلفة تمارس العنف فيما بينها وتعتدي على بعضها، وهي لم تحدد بعد هويتها كفصيل نقابي طلابي ام مجموعات سياسية داخل الجامعة تعالج مشاكلها وفق منظور العنف الثوري". هذا التوتّر من المنتظر أن يتضاعف مع قرب انتخابات ممثلي الطلبة في المجالس العلمية للجامعة خلال الشهر المقبل، ويؤدّي إلى مزيد من المصادمات الطلابية، خاصّة أن الاتحاد العام لطلبة تونس يرى في نفسه النقابة الوحيدة الشريعة الممثلة لكلّ الطلبة، في الوقت الذي يسعى فيه الاتحاد العام التونسي للطلبة إبراز وجوده من خلال الفوز في هذه الانتخابات. وقدّم الاتحاد العام التونسي للطلبة الشهر الماضي مبادرة "المشروع النقابي الديمقراطي" تهدف إلى إنهاء ممارسات العنف داخل الجامعة التونسية وتكريس ميثاق مشترك للعمل النقابي الطلاب. وتطرح المبادرة، أربعة نقاط رئيسية تتمثل في "دمقرطة العمل النقابي على مستوى الممارسة والخطاب، وتجريم العنف مبدأ وخطابا وسلوكا، والفصل الواضح بين الهياكل النقابية والهياكل السياسية، واحترام التعدّدية النقابية والسياسية داخل الجامعة". كما قدّم الاتحاد العام لطلبة تونس بدوره الأسبوع الماضي "مشروع ميثاق وطني" للحدّ من العنف داخل الجامعات التونسية. ويتضمّن مشروع المقترح خمس نقاط تتعلّق أساسا بالتصدّي لكافة أشكال العنف المادي والمعنوي واللفظي، ومقاومة ظاهرة التكفير، والدفاع عن قيم الديمقراطية والحداثة، والمشاركة في الأنشطة الثقافية والرياضية في الجامعة. وتأسست الجامعة التونسية الحديثة سنة 1960 بعد إلغاء التعليم الزيتوني، ووفق الأرقام الرسمية هناك 198 مؤسسة جامعية، تعود جميعها بالنظر الى 13 جامعة منتشرة في مختلف مناطق البلاد. كما يدرس بالمؤسسات الجامعية التونسية أكثر من 300 ألف طالب. وتأسس الاتحاد العام لطلبة تونس منذ عام 1952 على يد طلبة الحزب الحر الدستوري التونسي ويسيطر عليها اليساريون منذ السبعينات إلى اليوم. وتأسس "الاتحاد العام التونسي للطلبة" كمنظمة نقابية جديدة في الجامعة التونسية عام 1985 علي يد طلبة إسلاميين ومستقلين وتم حلّها عام 1991 في إطار حملة لاجتثاث الإسلاميين، ثم عاد بعد الثورة إلى النشاط وعقد مؤتمره الخامس منتصف أبريل/نيسان الماضي، تحت عنوان "الثورة والعودة"، وهو الأوّل له منذ التسعينيات.