باشر بعض كتائب المعارضة المقاتلة محاولة السيطرة على مدن وبلدات في الساحل السوري، تحت عنوان ما دعته ب «معركة الأنفال»، وتم الإعلان عن السيطرة على بلدة كسب الموازية للحدود السورية - التركية، كما تم التأكيد على استمرار عمليات «تحرير» المدن الساحلية الأخرى. وكانت قوى المعارضة السورية قد سجلت عبر الأسابيع والأشهر الماضية خسارتها لمواقع كانت تسيطر عليها وآخرها قلعة الحصن بالقرب من حمص، وقبلها ببضعة أيام مدينة يبرود شمال العاصمة دمشق. تتطابق سيناريوات «التحرير» في أغلب الحالات وفي أغلب المدن «المحررة». بداية تقوم بعض المجموعات التابعة للمعارضة باستهداف بعض الحواجز والمواقع التابعة للنظام، وبعدها تقوم قوات الأسد بشن حملة من الاعتقالات والدهم، والانتقام عبر قتل بعض المدنيين من سكان المدينة، ومن ثم تقوم بعض الكتائب التابعة للمعارضة بالتصعيد وتوجيه مزيد من الضربات العسكرية لمواقع النظام، يليها انسحاب لهذه القوات وفرض حصار على المدينة من قبل قوات النظام، وبعدها يبدأ القصف بكل انواع الأسلحة الثقيلة، حيث تهدم المدينة، وينزح السكان، ويسقط العشرات من الضحايا. هذا ما حصل في حيّي القدم والعسالي جنوب العاصمة دمشق، وأيضاً الأحياء الأخرى القريبة منها كالحجر والتضامن ومخيم اليرموك..، وهذا ما حدث أيضاً في بلدة زملكا في النصف الثاني لعام 2012، وهو أيضاً ما حدث في حي جوبر شرق العاصمة دمشق. وفي أغلب الحالات أثبتت هذه الاستراتيجية فشلها الذريع، فعلى صعيد المدن التي ما تزال تحت سيطرة قوى المعارضة، لم نشهد حتى يومنا هذا تجربة يعتد بها (مع الأخذ في الاعتبار بعض الاستثناءات طبعاً) على صعيد إدارة المدينة وإيجاد سلطات مدنية بديلة عن سلطة النظام في هذه المدن. حتى المدن والبلدات التي لم تعد خطوط جبهات قتال، وحدث فيها نوع من الاستقرار النسبي، لم يتمكن الناشطون في هذه المدن كما الكتائب التي سيطرت عليها، من بلورة سلطات مدنية تعكس الحد الأدنى من الحلم الذي خرج من أجله السوريون. أبعد ما لدينا هنا، تشكيل مخافر هي عملياً امتداد لسلطات الكتائب المسيطرة، وتشكيل هيئات شرعية غريبة كل الغرابة عن طبيعة مجتمعنا وثقافته الشعبية، هذا عداك عن ضعف إمكاناتها ونقص خبرات كوادرها، بينما الفساد المستشري والمحسوبيات التي تسيطر على قراراتها، تكشفه الشعارات التي كتبها الناشطون على جدران بلدة كفر بطنا في الغوطة الشرقية والتي تهاجم الهيئات الشرعية و «المشايخ» القائمين عليها، بينما يعكس هشاشة هذه الهيئات ما جرى منذ عدة أيام، حيث قام لواء الإسلام باعتقال الشيخ رياض الخرقي والمعروف بأبو ثابت، وهو أحد أعضاء الهيئة الشرعية في الغوطة الشرقية، حيث تم «اقتياده إلى سجن التوبة التابع للواء الاسلام بتهمة ما يسمونه (المساس بهيبة لواء الاسلام)» على ما اورد البيان الصادر عن علماء الغوطة الشرقية. وفي الوقت الذي تسارع فيه الكتائب المعارضة المختلفة إلى إرضاء مزاج الداعمين الماليين لها عبر بث خطاب أسلاموي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه خطاب سلفي، والتركيز على شكلانيات كالفتاوى الغريبة التي بتنا نسمع بها حول تحجيب النساء وغيرها، فإن المهمات الجذرية التي على هذه القوى القيام بها كإصلاح البنى التحتية لهذه المدن، وإعادة بناء المؤسسات والسلطات المدنية التي تستطيع وحدها تخفيف أعباء الحرب الواقعة على السوريين...، سنجد انها لا تقع في سلم الأولويات هذا إن نظر فيها أساساً. في الحقيقة تعد المدن التي نجحت المعارضة في حسن إدارتها على أصابع اليد الواحدة، وهو ما يؤكد فشل استراتيجية «تحرير» المدن، وهو فشل مزدوج، إذ يعبر حتى هذه اللحظة عن عجز قوى المعارضة عن إنتاج وبلورة سلطاتها البديلة وحسن إدارتها لهذه المدن، كما تعكس الكلفة البشرية والمادية الباهظة التي دفعها السكان وحدهم إثر تحرير مدنهم. بينما ستتضاعف هذه الكلفة عند فشل قوى المعارضة من الحفاظ على سيطرتها على هذه المدن، وتمكن قوات الأسد من الدخول إليها. لقد بات مصطلح «الانسحاب التكتيكي» يثير الغيظ لدى السوريين بقدر ما يثير من التساؤلات حول خطط التشكيلات العسكرية وأهدافها، إذ كيف يمكن أن نفسر دخول هذه التشكيلات العسكرية إلى بلدة معلولا على سبيل المثال وانسحابها بعد بضع ساعات؟ وهو الأمر نفسه ما جرى قبل بضعة أشهر في مدينة عدرا العمالية، حيث وقع العشرات من الضحايا المدنيين، بينما تم نهب أغلب المعامل قبل أن تنفذ هذه الكتائب انسحابها التكتيكي الشهير.